إذا صح ما يجري تداوله في بعض وسائل الإعلام من وقف اعتمادات الوقود لدى "مصرف لبنان" المركزي قريبا، فإن سيناريو كارثيا من الغلاء الفاحش والضائقة المعيشية سيكون بانتظار اللبنانيين في الربع الأخير من العام الحالي.
فقد نقلت جريدة "النهار" البيروتية، اليوم الثلاثاء، عمّن سمّته "مصدرا رسميا"، قوله إن المصرف المركزي لن يفتح اعتمادات جديدة للوقود المدعوم، معتبرا أن الإعلان رسميا عن رفع الدعم "مسألة وقت".
كما أكّد "المصدر الرسمي المتابع لملف المحروقات" أن "الأموال التي خُصصت لدعم الوقود انتهت"، مؤكدا أن "مصرف لبنان أوقف إعطاء أذونات الاستيراد المدعوم، ولن يعطي موافقات جديدة للاستيراد المدعوم بعد اليوم".
وفي حين يبقى موعد إعلان رفع الدفع "معلّقا وغير محسوم حتى الآن"، وفق تعبير المصدر، فإن من شأن وقف دعم استيراد المحروقات أن يوقف استنزاف ما تبقى من احتياطي النقد الأجنبي الإلزامي المودع من المصارف لدى البنك المركزي، لكنه في الوقت نفسه سيُعرّض اللبنانيين لضغط معيشي هائل، نتيجة الغلاء الكبير المتوقع في السلع والخدمات، وفي شتى الصعد والقطاعات.
فالبلد الداخل الآن على موسم دراسي لفصل خريف 2021 يليه شتاء قارس متوقع، يقف معه اللبناني أمام استحقاقين كبيرين: الأول، تأمين التعليم لأولاده في المدارس والجامعات، مع ما يستلزمه ذلك من أقساط وكتب وقرطاسية وألبسة وبدل نقل، ناهيك عن تكاليف الإنترنت والكهرباء في حال كان التعليم "أونلاين" بسبب كورونا، والثاني تجهيز "مونة" البيت الغذائية والمازوت المخصص للتدفئة، لا سيما في المناطق الجبلية ومحافظات الأطراف التي تتسم ببرودة عالية في موسم الأمطار.
وكان حاكم "مصرف لبنان" رياض سلامة قد أصدر بيانا، في وقت سابق، كشف فيه أنه باع 293 مليون دولار خلال يوليو/تموز الماضي، وأصدر موافقات سابقة بـ415 مليون دولار، أي ما مجموعه 708 ملايين دولار لاستيراد البنزين والمازوت، إضافة إلى 120 مليون دولار لاستيراد الفيول إلى مؤسسة "كهرباء لبنان"، أي ما مجموعه 828 مليون دولار لاستيراد المحروقات.
كذلك، كان أحدث جدول بأسعار مبيع المحروقات صادر بالقرار الرقم 170 عن وزارة الطاقة والمياه في 31 أغسطس/آب المنصرم، قد أورد الأسعار الرسمية للمحروقات، ونص على أن سعر صفيحة البنزين 98 أوكتان (السوبر) يُباع في محطات التوزيع بسعر 130800 ليرة، وصفيحة 95 أوكتان 126600 ليرة، والمازوت 98100 ليرة، إلا أن هذه الأسعار لا تعني شيئا للمحتكرين في السوق السوداء، وتبقى حصرا معتمدة في محطات تبيع بالسعر الرسمي.
أمثلة بالأرقام
وفي الوقت الذي لا يزال الحد الأدنى للأجور معتمدا عند 675 ألف ليرة، أي ما يعادل 37.5 دولارا أميركيا على أساس سعر صرف يبلغ 18000 ليرة في السوق السوداء اليوم الثلاثاء، بيعت صفيحة (20 لترا) من البنزين بسعر 800000 ليرة في بعض الأحيان عند الضرورة الشديدة في السوق السوداء، وهي متداولة فيها حاليا بسعر يصل إلى 400000 ليرة لمن لا يريد الوقوف في "طوابير الذل" على المحطات لساعات طويلة قبل الحصول عليها بالسعر الرسمي المحدد من وزارة الطاقة والمياه.
هذا السعر ينعكس بشدة على سعر "السرفيس" أو سيارات الأجرة التي تقل عددا من الركاب (وليس التاكسي أو خدمة الأجرة المخصصة لشخص أو له ولمن معه حصرا)، والتي كان بدلها قبل الأزمة 2000 ليرة فقط، بينما هو مرشح في حال رفع الدعم لبلوغ 25000 ليرة، وهذا ما أشار إليه في حديث تلفزيوني قبل أيام رئيس "اتحادات ونقابات قطاع النقل البري في لبنان" بسام طليس.
وبعدما كان الأهل يدفعون للباص الذي ينقل أولادهم إلى المدرسة مبلغا، يختلف من مدرسة لأُخرى، يناهز 80 ألف ليرة شهريا (53 دولارا تقريبا على سعر صرف 1500 ليرة، وهو السعر الذي لا يزال رسميا حتى الآن)، من المرجح أن يتضاعف المبلغ في الموسم الدراسي الحالي 10 مرات إلى 800000 ليرة، تعادل نحو 44 دولارا الآن بسعر السوق السوداء، والسبب طبعا انهيار سعر صرف الليرة وارتفاع أسعار الوقود.
وتُلاحظ حاليا حركة مناقلات كثيفة لطلاب من مدارس بعيدة عن بيوتهم إلى مدارس أقرب تجنبا لتكاليف النقل الباهظة هذا العام.
أما صفيحة (20 لترا) من المازوت التي كان ثمنها يقل عن 20000 ليرة قبل تدهور قيمة العملة، فتُباع في السوق السوداء حاليا بأسعار متباينة، إنما تفوق 200000 ليرة في كل الأحوال، أي أغلى بأكثر من 10 أضعاف سعرها سابقا.
ولأن فاتورة النقل والمحروقات تدخل في شتى القطاعات والخدمات، بما فيها المستشفيات والمخابز والمتاجر والإنترنت والمولدات الخاصة، فهي تؤثر مباشرة في أسعارها، ما يعني أن البلد مرشح للدخول في موجة غلاء "عويصة" بالتعبير اللبناني الدارج، إلا إذا حصل ما ليس في الحُسبان من انفراجات في بلد عاجز منذ أكثر من سنة عن تشكيل حكومة بسبب الخلافات السياسية المحتدمة على حساب مصالح اللبنانيين.
الفقر يجتاح اللبنانيين
إلى ذلك، أوضحت لجنة "الإسكوا" التابعة للأمم المتحدة، في دراسة نشرتها يوم الجمعة، تحت عنوان "الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان: واقع أليم وآفاق مبهَمة"، أن نسبة الذين يعيشون في فقر متعدد الأبعاد تصل إلى 82% من السكان، إذا تم أخذ أبعاد أوسع في الاعتبار، مثل الصحة والتعليم والخدمات العامة.
وقالت اللجنة في بيان، إن هذه الدراسة تأتي بعد عام من إصدارها تقديرات حول ارتفاع معدّلات الفقر في العام 2020، والتي أشارت إلى أن الفقر طاول 55% من السكان تقريبا، بعدما كان 28% منهم يعانون من الآفة في العام 2019، أي قبل الأزمة الحالية وانهيار البلد اقتصاديا.
ووفقا للبيانات الحديثة الواردة في الدراسة الجديدة، تشير "الإسكوا" إلى تضاعف نسبة السكان الذين يعانون من الفقر المتعدد الأبعاد بين عامي 2019 و2021 من 42% إلى 82%.
كما أوضحت أن الفقر المدقع متعدد الأبعاد، أي حالة الحرمان في بُعدين أو أكثر من أبعاد الفقر، أصبح يطاول 34% من السكان اليوم، وفي بعض المناطق اللبنانية أكثر من نصفهم.
ولفتت إلى أن نسبة الأسر المحرومة من الرعاية الصحية ارتفعت إلى 33%، كما ارتفعت نسبة الأسر غير القادرة على الحصول على الدواء إلى أكثر من النصف.