مع ارتفاع معدلات الفائدة الأميركية، وفي أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، هربت مليارات الدولارات من استثمارات الأموال الساخنة في أذون وسندات الخزانة المصرية، ونقلت وكالات الأنباء تقدير أحد البنوك المتابعة لحركة تلك الأموال للمبلغ الذي خرج في غضون أيام قليلة بنحو 15 مليار دولار.
كان المبلغ كبيراً بالنسبة للحساب الجاري للبلاد، الذي يعاني، قبل خروجها، عجزاً مزمناً، لم تنجح عائدات قناة السويس وتحويلات العاملين في الخارج وإيرادات السياحة في سده، وهو ما تسبب على مدار السنوات الأخيرة في لجوء البنك المركزي المصري للاقتراض المستمر، من خلال إصدار السندات بأنواعها المختلفة، أو من صندوق النقد الدولي، أو من "الأشقاء" في الخليج الذين دفعتهم العوامل الجيوسياسية لدعم النظام المصري الحاكم.
وفي محاولة لاستيعاب صدمة خروج الأموال الساخنة، سمح البنك المركزي بانخفاض الجنيه المصري مقابل الدولار بما يقرب من 17%، ليعود المستثمرون مرة أخرى إلى السوق المصرية، فأثمرت جهوده عن دخول نحو ملياري دولار من صندوق أبوظبي السيادي لشراء حصص من شركات مصرية واعدة، وأعلنت السعودية نيتها ضخ 10 مليارات دولار من استثماراتها في السوق المصرية، بالإضافة إلى إقراضها البنك المركزي 5 مليارات دولار، وأعلنت قطر نيتها ضخ نحو 5 مليارات دولار أخرى، وما زالت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي جارية من أجل حصول الحكومة المصرية على قرض جديد، لتعد مصر ثاني أكبر مقترض من الصندوق في العالم بعد الأرجنتين.
وفي مراحل سابقة، وخلال مراجعاته المتتالية لسياسات الحكومة المصرية الاقتصادية، كما يفعل مع كل الدول التي يقرضها، كانت للبنك ملاحظات تتعلق بتنامي الدور الذي تلعبه الجهات السيادية (الجيش والمخابرات) في الاقتصاد المصري، وتراجع دور القطاع الخاص فيه، خلال السنوات السبع الأخيرة.
وعلى استحياء، كرر الصندوق "توصيته" للمصريين بضرورة منح القطاع الخاص دوراً أكبر، للمساعدة في التغلب على الأزمات المتلاحقة.
وتشير التطورات الأخيرة إلى رغبة الحكومة المصرية في الاستجابة إلى توصية الصندوق، أو على الأقل اتخاذ الخطوات التي توحي بالاستجابة، لضمان تأمين قرض بمبلغ يتراوح بين 3 مليارات و5 مليارات دولار، كانت تأمل أن يكون ضعف ذلك قبل أن تدرك صعوبة الأمر، نظراً للمبالغ التي حصلنا عليها من الصندوق من قبل، ولم يتم سدادها حتى الآن.
والأسبوع الماضي، نقلت جريدة فاينانشيال تايمز البريطانية عن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مطالبته بإدراج حصص من الشركات المملوكة للجيش في البورصة المصرية قبل نهاية العام الحالي، كجزء من محاولات تقليل حدة الأزمة الحالية، خاصة مع التأثيرات السلبية الناتجة عن استمرار المعارك في أوكرانيا، وما سببته من ارتفاع أسعار الغذاء العالمية. وقالت الجريدة إن هناك نية أيضاً بالتخلي عن حصص مملوكة للحكومة في بعض الشركات المصرية.
على استحياء، كرر الصندوق "توصيته" للمصريين بضرورة منح القطاع الخاص دوراً أكبر، للمساعدة في التغلب على الأزمات المتلاحقة.
لم يكن الخبر جديداً، حيث أعلنت الحكومة المصرية قبل سنوات نيتها بيع حصص في نحو 23 شركة، لكنها لم تفعل إلا في شركة واحدة، قبل أن تأتي الصفقة الإماراتية الأخيرة التي بيعت فيها حصص في شركات لم تكن ضمن القائمة المعلنة.
وأشار الرئيس المصري أيضاً سابقاً إلى رغبته في بيع حصص من شركات الجيش في البورصة، إلا أن الأمر لم يتجاوز تلك الإشارة، رغم مرور فترة غير قصيرة من الوقت.
لكن الجديد هذه المرة كان ما نقلته الجريدة عن إعلان الرئيس نيته جمع ما يقرب من 10 مليارات دولار سنوياً، لمدة أربع سنوات، من خلال بيع حصص الحكومة في بعض الشركات، وهو مبلغ ضخم بالمقاييس المصرية، ويشير بوضوح إلى عملية خصخصة، قد تكون جزئية، إلا أنها بالتأكيد تمثل تحولاً كبيراً في السياسات الاقتصادية المصرية المتبعة، خلال العقدين الأخيرين على الأقل.
لست مؤيداً على طول الخط لعمليات الخصخصة، ولا أعارضها بصورة مطلقة، لكن هناك بعض الملاحظات التي يتعين أخذها في الاعتبار عند طرح ذلك البديل كأحد أساليب حل الأزمة الحالية، أملاً في وضع حد لانخفاض قيمة الجنيه مقابل الدولار، وفي نفس الوقت وضع حد للاعتماد على الأموال الساخنة المستثمرة في أدوات الدين بالجنيه المصري لسد عجز الحساب الجاري، بعد ما عانيناه من غدرها خلال الفترة الأخيرة.
أولى تلك الملاحظات هي محدودية تأثيرها على الاقتصاد المصري، كونها تمثل بيعاً لأصل نملكه، فنحصل على ثمنه مرة واحدة، نعالج به مشكلة العام الحالي، ثم لتعود "ريما إلى عادتها القديمة" في الأعوام التالية، خاصة لو استمر عجز الحساب الجاري على ما هو عليه حالياً.
ومن ناحية أخرى، يمثل بيع تلك الحصص استغناءً عن أصول كانت تدرّ أرباحاً تضاف إلى إيرادات الدولة. فلو بيعت تلك الأصول، ستتأثر الإيرادات، المنخفضة بالفعل، وهو ما سيزيد من عجز الموازنة المصرية، ويدفع الحكومة لزيادة اقتراضها لسده، ويتعارض ذلك بوضوح مع هدف تخفيض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الذي أكدت الحكومة مراراً سعيها لتحقيقه.
وعلى الجانب الآخر، يزيد بيع الحكومة لحصصها خلال فترة الأزمة الحالية من احتمالات البيع بأسعار زهيدة، خاصة بعد التخفيض الأخير لقيمة الجنيه، والذي كان مثل "الأوكازيون" الذي منحته الحكومة للمشترين.
ولو تحققت توقعات بعض المحللين المتشائمين بحدوث انخفاض جديد للعملة المصرية، سيكون ذلك بمثابة خصم إضافي ممنوح على الشركات المبيعة، يقلل من مميزات هذا البديل، بينما يزيد من تغلغل دول بعينها، لها أجنداتها الخاصة، في الاقتصاد المصري.
أما المعضلة الأخيرة فتتمثل في ما تفرضه عمليات بيع حصص في البورصة المصرية، أو لمستثمرين أجانب، من إفصاح، وفحص نافٍ للجهالة، للجهات الراغبة في الشراء، وهو ما يعني فتح ملفات كثيرة، تشمل أرقاماً وبيانات وميزانيات، لا أعتقد أن الجهات المالكة لها حالياً ترغب في فتحها.
فهل تخذلني تلك الجهات وتثبت بالدليل القاطع عدم وجود ما يستحق الإخفاء، أم تذهب تلك التصريحات أدراج الرياح كما حدث في مراتٍ سابقة؟