ليس مستغرباً أن تشهد الساحة الأردنية غضبة مضرية، عندما علم الناس صباح يوم السبت الماضي 13/3 أن ستة من مرضى كورونا في مستشفى السلط الجديد قد ماتوا بسبب نقص الأكسجين في المستشفى. وَلمَّا فطنت إدارة المستشفى للأمر، طلبت أنابيب الأكسجين من المصنع المتعاقد معه، فوصلت بعد ساعتين، ما أدت كما يبدو إلى موت ثلاثة آخرين.
وتجمهر أهالي السلط من أهل المرضى، وجيرانهم وأبناء عشائرهم، طالبين معلومات عن الموتى والأحياء منهم. ولكن رجال الأمن الذين وصلوا إلى هناك حالوا دون دخول الأهالي المستشفى، فانقلب التجمع إلى مظاهرة سياسية، وأُطلقت شعارات تطالب بعزل حكومة بشر الخصاونة، ووزير الصحة، ومدير المستشفى.
وقد سبق هذه الحادثة صدور قرارات عن الحكومة شدّدت فيها القبضة على حركة الناس، وصعّدت العقوبات المادية والمدنية ضد المخالفين، وأعادت حظر يوم الجمعة، وقلصت ساعات الحركة في المساء ساعتين.
وجاءت هذه الإجراءات استجابة لزيادة عدد الحالات والوفيات بفيروس كورونا وارتفاعها إلى مستوياتٍ ما كان أحد يتصور أن تصل إليه. وعلى الرغم من أن الحكومة أعلنت النفير بعد الساعة السابعة مساءً، إلا أن أهالي السلط وبعض المدن في الأردن لم يستجيبوا لطلب الالتزام بالبيوت، وخرجوا مندّدين بالحكومة في الشارع.
ولمّا كانت الساعة قرابة الحادية عشرة من صباح السبت، وصل الملك عبدالله الثاني وولي عهده الأمير الحسين بن عبدالله إلى المستشفى. وبدا العاهل الأردني مكفهر الوجه، ومؤنباً بصوتٍ عالٍ مدير المستشفى، واتخذ قراراً على الفور بعزله، ومساءلة مدير العمليات في المستشفى، وأمر الملك رئيسَ الوزراء باقالة وزير الصحة. وقد ساهمت هذه الإجراءات في تخفيف حدّة غضب الناس، خصوصا وأن الملك أمر بتشكيل لجنة فنية برئاسة طبيب عسكري، لكي تحقق في الموضوع.
وقد ارتكبت الحكومة في تصريحاتها عدة هفوات (ولا أقول أخطاء) في تناولها خبر إقالة وزير الصحة ناسبة المبادرة بذلك إلى رئيس الوزراء، ثم عادت بعد عشر دقائق لتؤكد أن الإقالة جاءت بأمر من الملك، وبتنفيذ من رئيس الوزراء بصفته الذي نَسّب إلى الملك بتعيين الوزير.
وفِي يوم الأحد 14/3، عقد مجلسا الأعيان والنواب جلستين طارئتين، استمع فيهما رئيس الوزراء لِخُطب لاذعة، طالبته بعضها بالاستقالة، أو طلبت في مجلس النواب طرح الثقة في الرئيس.
ولكن رئيس مجلس النواب الذي دعا إلى الاجتماع، بهدف مناقشة حادثة مستشفى السلط، استبق أي دعوات من أي مجموعة نواب بتقديم بند طرح الثقة في الحكومة على بساط البحث.
وهكذا، اقتصر الأمر على النقد وتقديم المقترحات والدعوة إلى استخدام العقل. ولذلك لم يقدّم مقترح طرح الثقة بالحكومة للتصويت، واكتفى المجلس باتخاذ قرارٍ يدعو فيه إلى تشكيل لجنة نيابية لتقصي الموضوع.
المناخ السياسي لا يُسعف في إقالة الحكومة، حتى لا يدخل الأردن في موجةٍ جديدةٍ من تشكيل حكومة جديدة، إذا ترك فيها الخيار للنواب
ومن بعد صدور التقرير، يقوم مجلس النواب وبناءً على محتويات التقرير بمساءلة المتورّطين في الحادث. وطرح الثقة في الحكومة إن اقتضى الأمر.
ولقد تحمّل رئيس الوزراء، عبر ثلاث كلمات ألقاها مساء السبت وصباح الأحد الماضيين، بكامل المسؤولية السياسية والأدبية، معترفاً بأن هذا الخطأ الجسيم قد أودى بحياة مواطنين في بلد شعاره "الإنسان أغلى ما نملك"، وأن فجوة الثقة بين الشعب والحكومة قد توسّعت كثيراً.
ولكنه بالطبع لم يقل إنه جاهز لتقديم استقالته، بل قدّم الوعود بعمل "ثورة إدارية"، ورفع مستوى الخدمات الحكومية. وانتهى الوضع عند هذا الحد.
وهكذا نجت الحكومة من الانفراط، ولكن الأهم أن المناخ السياسي لا يُسعف في إقالة الحكومة، حتى لا يدخل الأردن في موجةٍ جديدةٍ من تشكيل حكومة جديدة، إذا ترك فيها الخيار للنواب، فلن تكون بأفضل من سابقتها، وستدخل الحكومة الجديدة أسبوعا من الخطابات المهيّجة للرأي العام بانتقاد الحكومة الجديدة بأنها مثل سابقاتها.
والأهم من ذلك كله، أن الأجواء السياسية في المنطقة، وهي على مقربة أيام من انتخابات الكنيست الإسرائيلية التي يبدو فيها بنيامين نتنياهو أوفر حظاً بكسبها من غيره.
وهذا بحد ذاته خبرٌ سيئ للأردن، لأن ذلك يعني أن المنطقة لن تشهد مفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأن حل الدولتين سيبدو أبعد منالاً وأقل احتمالاً، وأن إسرائيل، خلال السنوات الأربع المقبلة، ستفعل كل شيء ممكن لإلغاء أي احتمال لقيام دولة فلسطينية ذات سيادة في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وفِي كلتا الحالتين، فاز نتنياهو أم لم يفز، أو جرت انتخابات تشريعية ورئاسية فلسطينية أم لم تحصل، سيجد الأردن نفسه مضطراً لإعادة تكييف أوضاعه، بتشكيل حكومة جديدة قد يعود بشر خصاونة لتأليفها بوجوه جديدة، وتغييرات أخرى في وظائف حساسة في الدولة الأردنية.
ومن ناحية أخرى، يرقب الأردن عَنْ كثب ما يجري في سورية، ويبدو من دلالات الأمور أن الرئيس بشار الأسد مُتَّفَق على بقائه أوروبياً وأميركياً، وبالطبع روسياً، وخليجياً، وتركياً.
سورية مهمة للأردن جداً، وتشكل الرابط البري البحري بين الأردن وأوروبا، وتحيي العبور من خلال الأردن بين دول الخليج وأوروبا متى عاد الاستقرار إلى ربوعها
وسورية مهمة للأردن جداً، وتشكل الرابط البري البحري بين الأردن وأوروبا، وتحيي العبور من خلال الأردن بين دول الخليج وأوروبا متى عاد الاستقرار إلى ربوعها. وكذلك العراق مهم للأردن، واتفقت الدولتان على إقامة مشروعات استراتيجية بينهما. ولذلك، فإن عودة العراق واستقراره سيكون ذا أثر كبير على الأوضاع داخل الأردن.
كل هذه الأمور سوف تتضح في النصف الثاني من هذا العام، وتكون القيادة السياسية العليا في الأردن أقدر على تحديد طبيعة علاقاتها مع جيرانها في فلسطين، وسورية، والعراق، والخليج، وإسرائيل. وعندها يصبح التكيف السياسي والإداري مفهوماً أكثر. والحكومة وتكوينها وتوجهاتها ستكون أكثر استجابه مع هذه التطورات.
وبناءً على هذه المعطيات الداخلية والخارجية، قد يرى الملك عبدالله الثاني أن من الأفضل إبقاء الحكومة الحالية عدة أشهر على الأقل، إلا اذا ارتفعت وتيرة الاحتجاجات داخل الأردن إلى مستوياتٍ لا يمكن تجاهلها.