تعاني ليبيا الغنية بالنفط من أزمات وقود متكررة في عدد من المناطق، وسط تحذيرات من اتساع نشاط عصابات التهريب، خلال الفترة الأخيرة.
وتصنف ليبيا عالميا ثاني أرخص دولة في سعر الوقود، حيث يبلغ ثمن لتر البنزين أو الديزل 150 درهما (0.15 دينار ليبي) أو ما يعادل 3 سنتات أميركية للتر الواحد).
وللوهلة الأولى، قد يبدو هذا السعر المتدني في صالح الليبيين، إلا أن خبراء اقتصاد ورجال أعمال ومواطنين يطالبون منذ سنين برفع الدعم السلعي عن المحروقات، والاستعاضة عنه بدعم نقدي، بهدف الحد من تهريبه عبر الحدود.
يعبِّر أحد سكان الجنوب الليبي، المهدي نوري، عن امتعاضه من معاناة الأهالي هناك مع الوقود. ويقول لـ"العربي الجديد": "لا نعتبر أنفسنا داخل دولة نفطية تَدعم الوقود، لأنه ببساطة لا يصل إلى الجنوب إلا كل حين، ويكثر حوله الازدحام، ويبيعه تجار السوق السوداء بأسعار غالية تصل في بعض الأحيان إلى 3 دنانير للتر الواحد، أي ما يعادل 20 ضعف ثمنه الرسمي"، (الدولار = 4.48 دنانير).
يوافقه في الرأي أحد سكان مدينة الزاوية غرب طرابلس، عبد المنعم الصقري، حين يقول لـ"العربي الجديد": "أنا أقطن قرب أكبر مصفاة نفط في ليبيا، وفي المقابل تعتبر تعبئة خزان سيارتي بالوقود مسألة معقدة جدا".
وتمتلك ليبيا احتياطيا نفطيا هو الأكبر في قارة أفريقيا، بنحو 48 مليار برميل، وحسب وكالة الطاقة الأميركية، تزيد الأرقام عند احتساب احتياطي النفط الصخري، ليصل الاحتياطي إلى 74 مليار برميل قابلة للزيادة، الأمر الذي يضع الدولة الأفريقية المتوسطية مترامية الأطراف في المرتبة الخامسة عالميا، هذا بالإضافة لجودة نفطها، وامتلاكها احتياطيات غاز كبيرة أيضا.
من ناحية أخرى، لم تحسن ليبيا استغلال هذه الثروة، حيث بلغ أقصى إنتاج يومي لها 1.65 مليون برميل يوميا قبل إطاحة نظام القذافي، وبعد ذلك، تقلصت القدرة الإجمالية إلى 1.2 مليون برميل، تنتج ليبيا نصفها تقريبا في الوقت الحالي بسبب إغلاق حقول وموانئ في شرق وجنوب البلاد، وهو إغلاق يتكرر كل حين، ولأسباب عديدة.
وأثرت الأزمة الأمنية التي تعيشها البلاد منذ إطاحة نظام معمر القذافي سنة 2011 على وصول الوقود النفطي المدعوم إلى المواطنين، بسبب تنامي ظاهرة تهريبه إلى دول الجوار، ومنها تونس ومصر والسودان وتشاد والنيجر، هذا بالإضافة لدول أوروبية يصلها الوقود عبر سفن تهريب.
وقال المتخصص بالشأن الاقتصادي، أحمد هويدي، لـ"العربي الجديد": "تهريب الوقود بدأ تدريجيا منذ تسعينيات القرن الماضي، أثناء فترة الحصار الاقتصادي الذي فرض على ليبيا بسبب أزمة لوكربي، عندها انخفض سعر الدينار الليبي في السوق السوداء، وبدأ بعض سكان الجنوب التونسي في دخول ليبيا بسياراتهم، وتعبئة خزانات سياراتهم، ثم العودة بنفس اليوم وبيع الوقود في تونس والاستفادة من فرق سعر الوقود، وفرق سعر العملات أيضا".
وأضاف "مع الوقت زادت الأرباح، وتوسع نشاط التهريب بدخول ليبيين هذا المعترك، سواء كمُهرِّبين، أو مساهمين في التهريب عبر معبري راس اجدير، ووازن الحدوديين. وبدأت شبكات تهريب في التكوّن، لكنها كانت بسيطة، لأن التهريب كان يتم عبر خزانات السيارات والشاحنات المحدودة".
ويستدرك هويدي قائلا: "التهريب الحقيقي والمؤثر على الاقتصاد والمواطن بدأ بعد 2011، وساهم في تنامي التهريب الاختلال الأمني، وشبه غياب الدولة، وانتشار السلاح. وأدى كل ذلك لتكوين مليشيات مسلحة نالت الاعتراف الرسمي بطريقة أو أخرى، وشرع جزء كبير منها في تهريب الوقود عبر الصهاريج الكبيرة المنقولة، والتي تسع 40 ألف لتر".
ويضيف: "ومع الوقت نشأت عصابات كبيرة نشطت في التهريب، وتشاركت مصالحها مع عصابات إقليمية ودولية حتى وصل الحال لتهريبه بكميات ضخمة عبر السفن".
وساهم تهريب الوقود في قلة المعروض منه بالسوق المحلي، خاصة في الأماكن النائية، الأمر الذي دفع لتكرار الازدحام على محطات الوقود. بالإضافة لمساهمة عجز الدولة عن إنتاج ما يكفي من الطاقة في زيادة الطلب على الوقود الذي بات يستخدمه المواطنون في توليد الكهرباء من خلال مولدات منزلية متراوحة الحجم والاستهلاك.
من جهته، يستغرب الخبير الاقتصادي عبد السلام زيدان، من عدم التفات الدولة لحل هذه المعضلة، مع أن أجراسا كثيرة قد قرعت منذرةً بالخطر.
ويقول لـ"العربي الجديد": "لقد وصلت ميزانية دعم المحروقات سنة 2021 إلى 22.6 مليار دينار، والتهمت وحدها ربع الميزانية، وتجدد الأمر هذا العام، وهو أمر غير مسبوق عالميا، والدولة لا تتحرك لإنهاء هذا العبث بسبب سطوة المليشيات المسلحة، والتي تسيطر مع رجال أعمال على تدفقات نقدية هائلة ناتجة عن هذه التجارة غير الشرعية".
ويطالب زيدان باستبدال الدعم السلعي للوقود بدعم نقدي يضاف دوريا إلى حسابات المواطنين في المصارف، ويقول في هذا الشأن "بالإمكان الاستفادة من منظومة أرباب الأسر الموجودة فعلا لدى مصرف ليبيا المركزي، مع الاستعانة بالسجل المدني في إضافة المولودين الجدد، وحذف المتوفين بشكل مستمر، ثم حساب حصة الفرد الواحد من الدعم".
ويعتقد زيدان أن هذا الإجراء "كفيل بإنهاء أزمة تهريب الوقود نهائيا، وسيساهم في توزيع الثروة النفطية بشكل عادل. ووفقا لرأيه، فـ"المستفيدون الأوائل من دعم المحروقات هم المهربون، ثم أصحاب السيارات، فيما لا ينال المواطن البسيط الذي لا يمتلك سيارة أي نصيب".
في الجهة المقابلة، يُبدي مراقبون خشيتهم من ألا يصل الدعم النقدي إلى المواطنين بشكل منتظم، ويُرجع هذا للفساد الإداري والمالي المستشري في الدولة.