منذ أشهر وأزمة نقص الرقائق الإلكترونية المصنوعة كأشباه موصلات تشغل بال الدول الصناعية الكبرى، لتهديدها بخسائر كبرى في قطاعات عديدة، من السيارات إلى الهواتف الذكية والأجهزة المحمولة والصناعات التحويلية عموما.
والأجهزة المصنوعة من أشباه الموصلات، ولا سيما السيليكون، تُعد مكونات أساسية في معظم الدوائر الإلكترونية، كما تُستخدم أشباه الموصلات في مكونات شتى في صناعة السيارات، مثل الإدارة الحوسبية للمحركات ومكابح الطوارئ، والرقائق المستخدمة في إدارة المحركات وأنظمة مساعدة السائق.
ويرصد خبراء أسباب الأزمة الأساسية بالإشارة إلى أن وباء فيروس كورونا معطوفا على ارتفاع المخزون بسبب الحرب التجارية، وعلى التحوّل المتمثل في العمل مِن بُعد، على أنها العوامل التي تتسبب في نقص أشباه الموصلات، وهي أزمة "يتأثر بها كل شيء يحتوي على شريحة، كالسيارات والهواتف الذكية وأجهزة الألعاب والأجهزة اللوحية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة".
فماذا تعرف عن هذه الأزمة وأبرز تطوراتها؟
نقص غير مسبوق
كان بارزاً في 17 مارس/ آذار الجاري، ما نقلته "رويترز" عن مسؤول كبير في جمعية صناعة أشباه الموصلات الصينية، وقوله إن العالم يمر بنقص غير مسبوق في الرقائق، بعد نمو مبيعات أشباه الموصلات 18% خلال العام الماضي. وقال تشو زي شيوي، رئيس الشركة الدولية لتصنيع أشباه الموصلات، في تصريحات خلال مؤتمر "سيميكون الصين": "يتعين علينا تعزيز تعاوننا، وأن نولي اهتماما أكبر بالابتكار. هذه هي الطريقة الوحيدة حتى تتمكن صناعتنا من إدارة التحديات التي تواجهنا".
وأشارت "بلومبيرغ" إلى أن كميات بعض الطرازات من هاتف "آيفون 12" كانت محدودة بسبب نقص المكونات، بينما عُزيَت الصعوبات في الحصول على جهاز "بلاي ستايشن 5" من "سوني" وجهاز "إكس بوكس" الأخير من "مايكروسوفت" إلى النقص في بعض الرقائق.
كما حذر عدد من الشركات المصنّعة لأشباه الموصلات، كشركة "كوالكوم" الأميركية العملاقة ومنافستها "إيه إم دي"، من أزمة متنامية.
وتتسم سلسلة توريد أشباه الموصلات بالتعقيد. فالشركات الأميركية العملاقة التي تزود الشركات المصنعة للإلكترونيات الاستهلاكية بهذه الشرائح، تصمم المكونات ولكن في الغالب لا تصنعها. ويدير المقاولون من الباطن الآسيويون، كمثل شركة "تي إس إم سي" التايوانية أو شركة "سامسونغ" الكورية الجنوبية، معظم خطوط الإنتاج.
ويواجه المصنعون أيضا صعوبة في تلبية الطلب من القطاعات المختلفة، إذ إن التغيير في وضع الإنتاج قد يستغرق شهورا. وفي ظل هذا الواقع، فإن تايوان، التي تضم بعض أحدث مسابك أشباه الموصلات، وجدت نفسها تحت ضغط من شركات صناعة السيارات والحكومات.
اضطراب إنتاج السيارات
بدا واضحاً تأثير نقص الرقائق على صناعة السيارات العالمية، حيث أعلنت الشركات تباعاً تعديلات في سلاسل إنتاجها. ففي 19 مارس/ آذار الجاري، أوردت "فرانس برس" أن "نيسان" اليابانية ستعلّق جزءا من إنتاجها في أميركا الشمالية لأيام بسبب النقص المستمر في أشباه الموصلات، وفق ما قال ناطق باسم المجموعة لوكالة فرانس برس، الجمعة.
وأوضح المصدر أن "نيسان تعدل إنتاجها في عملياتها في أميركا الشمالية" بسبب صعوبات الإمداد "المتعلقة بأشباه الموصلات". كما ستوقف المجموعة المتحالفة مع "رينو" الفرنسية أيضا الإنتاج في أحد مصانعها في المكسيك لعدة أيام.
وجاء ذلك بعدما أعلنت "هوندا" و"تويوتا" أيضاً توقف الإنتاج أسبوعاً في العديد من مصانعهما في أميركا الشمالية بسبب مشكلات متعددة في توريد قطع الغيار. وبسبب النقص العالمي في أشباه الموصلات، خفضت كل من "هوندا" و"نيسان"، في فبراير/ شباط، توقعات مبيعاتهما للسنة المالية 2020/21، التي تنتهي غداً الأربعاء.
وفي 9 فبراير/ شباط المنصرم، نقلت "رويترز" عن عملاق صناعة السيارات الألماني "فولكسفاغن" توقعه أن يستمر شح إمدادات الرقائق الإلكترونية في النصف الأول من2021، لكنه سيفعل كل ما بوسعه للتعويض عن تأخيرات الإنتاج في النصف الثاني من العام.
وقالت الشركة: "تعمل فولكسفاغن باستمرار للحد من آثار أزمة النقص العالمي في أشباه الموصلات على الإنتاج"، بعدما فوجئ مصنعو السيارات حول العالم بنقص في إنتاج أشباه الموصلات بعد تعاف سريع لسوق المركبات في العالم، ما دفع الشركة إلى تقليص عدد ساعات العمل في عدد من المصانع، ودعت إلى برامج تمويل عامة للمساعدة في التخفيف من وطأة مشكلات إمدادات الرقائق الإلكترونية.
وفي اليوم نفسه، قالت "رويترز" إن ثاني وثالث أكبر مصنّعتين للسيارات في اليابان: "هوندا موتور" و"نيسان موتور"، ستبيعان عدداً أقل من السيارات بواقع 250 ألفاً في السنة المالية الحالية للشركتين، إذ يلحق النقص العالمي في رقائق أشباه الموصلات الضرر بالإنتاج.
كما قالت "جنرال موتورز" الأميركية إن نقص رقائق أشباه الموصلات العالمي قد يقلص أرباح 2021 بما يصل إلى ملياري دولار، ومددت خفضا للإنتاج في 3 مصانع بأميركا الشمالية.
وسبق ذلك في 5 فبراير/ شباط، قالت شركتا "رينو" و"ستيلانتس" إنهما ستوقفان إنتاج السيارات في عدد من المصانع، إذ تواجهان عجزا على مستوى العالم في أشباه الموصلات اللازمة، علماً أن شركات صناعة السيارات عالمياً تتضرر من عجز في الرقائق المستخدمة في إدارة المحركات وأنظمة مساعدة السائق، والتي تأتي أساساً من آسيا وخاصة تايوان.
ورفعت أزمة كورونا الطلب على الرقائق المستخدمة في الإلكترونيات، مثل أجهزة اللابتوب والهواتف، ويجد المصنعون صعوبة في مواكبته، فيما تأثرت أيضا بعض الإمدادات من الصين بفعل عقوبات أميركية فرضتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب.
ومن المتأثرين أيضا شركة صناعة السيارات "ستيلانتس"، التي تمخض عنها اندماج "بي.إس.إيه" الفرنسية و"فيات كرايسلر" الإيطالية.
وفي 4 فبراير/ شباط، أعلنت "فورد موتور" أنها ستقلص مؤقتاً نوبات العمل في مصنعين لتجميع شاحنتها الرئيسية "إف-150" ابتداء من الأسبوع القادم، وسط نقص في أشباه الموصلات يعاني بسببه عدد متزايد من صناع السيارات. وقالت إنها "تعمل عن كثب مع الموردين لمعالجة قيود الإنتاج المحتملة الناجمة عن النقص العالمي في أشباه الموصلات وتعكف على إعطاء الأولوية لخطوط إنتاج السيارات الرئيسية".
وفي اليوم ذاته، قالت "مازدا موتور" إنها تتوقع أن يتقلص إنتاجها 7 آلاف سيارة هذا الشهر بسبب نقص الرقائق.
النقص يرفع أسعار المنتجات
ولا تقتصر التأثيرات طبعاً على صناعة السيارات. ففي 22 فبراير/ شباط، نقلت "فرانس برس" تحذير عدد من الخبراء من أن أسعار أجهزة "بلاي ستايشن" و"آيفون" قد ترتفع هذا العام بسبب نقص في أشباه الموصلات ناجم عن مجموعة عوامل، بينها ازدهار الطلب على الإلكترونيات، والإرباك الذي أصاب سلاسل التوريد بسبب جائحة كورونا والحرب التجارية.
فتدابير الإقفال التي اتُخذت بسبب الجائحة جعلت المستهلكين يلجأون إلى أجهزة الكمبيوتر أو الأجهزة اللوحية أو وحدات التحكم في الألعاب التي تعمل بواسطة الرقائق.
وفي الموازاة، عمدت "هواوي" الصينية العملاقة للتكنولوجيا، في ضوء الحرب التجارية المتفاقمة بين الصين والولايات المتحدة، إلى تخزين أشباه الموصلات، العام الفائت، ما زاد الضغط على الكمية المتوافرة للعرض.
وقفزت هذه التوترات في السوق إلى الواجهة عندما سعت شركات إنتاج السيارات إلى الحصول على المزيد من أشباه الموصلات، فأدركت أن الشركات المصنعة للرقائق تعطي الأولوية للإلكترونيات الاستهلاكية.
ولاحظ المدير التنفيذي لشركة "ستراتيجي أناليتيكس" الاستشارية نيل ماوستون، في تصريح لوكالة فرانس برس، أن"عاصفة فيروس كورونا معطوفة على ارتفاع المخزون بسبب الحرب التجارية، وعلى التحول المتمثل في العمل مِن بُعد"، هي العوامل الني "تتسبب في نقص أشباه الموصلات". وتوقع أن "يتأثر كل شيء يحتوي على شريحة، كالسيارات والهواتف الذكية وأجهزة الألعاب والأجهزة اللوحية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة".
ويرجّح خبراء أن "تتراجع الكميات المنتَجة من السلع الإلكترونية والمركبات وأن تشهد أسعارها ارتفاعا خلال سنة 2021".
إجراءات غربية لكبح الأزمة
وفي مواجهة الأزمة التي تفاقم أزمة الدول الصناعية الكبرى، نقلت وكالة الأنباء القطرية (قنا)، في 5 مارس/ آذار الجاري، عن قناة الحُرة تصريحات نقلاً عن مصدر في الكونغرس الأميركي أن هذا الأخير يدرس تضمين مشروع قانون جديد، يهدف إلى تعزيز القدرة التنافسية مع الصين، تمويلاً بقيمة 30 مليار دولار لتعزيز صناعة الرقائق في البلاد.
ويهدف "المشرعون إلى طرح مشروع القانون الذي يشمل عناصر أخرى لتعزيز قطاع التكنولوجيا في البلاد للتصويت في إبريل/ نيسان المقبل. وقد تسمح هذه التشريعات بتقديم منح للشركات التي تستثمر في المصانع والمعدات الأميركية لتصنيع أشباه الموصلات واختبارها والبحث والتطوير".
ويوجه برنامج آخر الحكومة إلى إقامة شراكة بين القطاعين العام والخاص لتشكيل اتحادات من الشركات لإنتاج "الإلكترونيات الدقيقة الآمنة".
وسبق ذلك في 18 فبراير/ شباط، نقلت "رويترز" عن متحدثة باسم البيت الأبيض قولها إن كبار مسؤولي الإدارة الأميركية المعنيين بالاقتصاد والأمن القومي يكثفون جهودهم لمساعدة قطاع صناعة السيارات في البلاد على مواجهة نقص متزايد في رقائق أشباه الموصلات والذي أجبر الشركات على تقليص الإنتاج في أنحاء العالم.
وأضافت المتحدثة أن إدارة الرئيس جو بايدن عقدت اجتماعات مع شركات السيارات والموردين لتحديد نقاط الاختناق بسلسلة الإمداد، وحثت الشركات على العمل بتعاون من أجل مواجهة النقص.
كما كلف البيت الأبيض السفارات الأميركية بتحديد الكيفية التي يمكن بها للدول الأجنبية والشركات التي تنتج الرقائق فيها المساعدة في حل مشكلة النقص العالمي والعمل مع الشركاء الدوليين والحلفاء في هذا الشأن وحثهم على مواجهة النقص الحالي.
وتشمل الجهود التواصل مع تايوان، موطن شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات، وهي مصنّع رئيسي للرقائق للعثور على سبل لحل أزمة النقص.
وفي 11 فبراير/ شباط، قال البيت الأبيض إن مسؤولي الإدارة يعملون على معالجة نقص رقائق أشباه الموصلات المتزايد والذي أبطأ الإنتاج بقطاع صناعة السيارات في أنحاء العالم. وقالت جين بساكي، المتحدثة باسم البيت الأبيض، إن إدارة بايدن "تعكف على تحديد نقاط الاختناق بسلسلة الإمداد وتعمل بدأب مع الأطراف الرئيسية بالصناعة ومع شركائنا التجاريين من أجل بذل المزيد".
ومن أوروبا، طلبت ألمانيا، في 24 يناير/ كانون الثاني، من تايوان إقناع مصنعيها بالمساعدة في تخفيف نقص في رقائق أشباه الموصلات بقطاع السيارات يعيق التعافي الوليد لاقتصادها من جائحة فيروس كورونا. وفي رسالة اطلعت عليها "رويترز"، طلب وزير الاقتصاد بيتر ألتماير من نظيرته التايوانية وانغ مي-هوا، تناول المسألة خلال محادثات مع شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات، التي تعتبر أكبر مقاولي صناعة الرقائق في العالم وأحد الموردين الرئيسيين لألمانيا.
عقوبات أميركية أجّجت اضطراب السوق
والحرب التجارية القائمة أساساً بين الولايات المتحدة والصين تلعب دوراً في تأجيج أزمة الرقائق. ففي 18 ديسمبر/ كانون الأول 2020، أوردت "أسوشييتد برس" أن إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أدرجت أكبر شركة لتصنيع الرقائق في الصين على القائمة السوداء، ما يحد من وصول "شركة تصنيع أشباه الموصلات الدولية" الصينية إلى التكنولوجيا الأميركية المتقدمة بسبب علاقاتها المزعومة بالجيش الصيني، علماً أن شركة تصنيع أشباه الموصلات الدولية نفت سابقاً أي صلات تربطها بالحكومة الصينية.
وتضع وزارة التجارة أكثر من 60 شركة أخرى على القائمة لأمور مثل الدعم المزعوم للجيش الصيني، ومساعدة الحكومة الصينية في قمع المعارضة، والمشاركة في سرقة الأسرار التجارية ومساعدة جهود بكين العدوانية للمطالبة بأراض في بحر الصين الجنوبي. لكن شركة تصنيع أشباه الموصلات الدولية هي الهدف الأكثر شهرة.
وتعني هذه الخطوة أن الشركات الأميركية ستحتاج إلى الحصول على ترخيص لبيع التكنولوجيا المتطورة إلى شركة تصنيع أشباه الموصلات الدولية.
وفي 4 ديسمبر/ كانون الأول 2020، صعدت الحكومة الأميركية نزاعها مع بكين بشأن الأمن، بإضافة أكبر مُصنّع لرقائق المعالجات في الصين، وعملاق نفط مملوك للدولة، إلى قائمة سوداء تحد من الوصول إلى التكنولوجيا والاستثمار الأميركيين.
وأضاف البنتاغون 4 شركات، بما في ذلك المؤسسة الدولية لتصنيع أشباه الموصلات، والمؤسسة الوطنية الصينية للنفط البحري، إلى قائمة الكيانات التي تعتبر جزءا من جهود الصين لتحديث جيش التحرير الشعبي، الجناح العسكري للحزب الشيوعي الحاكم. بذلك يرتفع العدد الإجمالي للشركات المدرجة في القائمة السوداء إلى 35 شركة.
وتلعب المؤسسة الدولية لتصنيع أشباه الموصلات دوراً رائداً في جهود الحزب الحاكم لتقليل الاعتماد على التكنولوجيا الأميركية والأجنبية الأخرى من خلال إنشاء موردين صينيين لرقائق المعالجات والمكونات الأخرى.
وأصبحت هذه القيود أكثر إلحاحاً بعدما منعت واشنطن وصول الرقائق الأميركية وغيرها من التقنيات لشركة "هواوي تكنولوجيز" العملاقة لمعدات الاتصالات، وفرضت قيودا على المشترين الصينيين الآخرين. كما منع البيت الأبيض أيضا استخدام البائعين العالميين للتكنولوجيا الأميركية لإنتاج رقائق لشركة "هواوي".
وسبق ذلك في 17 أغسطس/ آب 2020، أن أعلنت إدارة ترامب أنها ستزيد تشديد القيود على "هواوي"، مستهدفة تضييق الخناق على وصول عملاق معدات الاتصالات الصيني إلى الرقائق الإلكترونية المتاحة تجارياً.
وقد برزت أزمة الرقائق بقوة في 8 أغسطس/ آب 2020، حيث أفادت "أسوشييتد برس" حينها، بأن "هواوي" تعاني من نفاد رقائق المعالجات المستخدمة في صناعة الهواتف الذكية بسبب العقوبات الأميركية، وقد تضطر إلى وقف إنتاج رقائقها الأكثر تقدماً.
رئيس وحدة المستهلكين في الشركة، ريتشارد يو، قال حينها إن إنتاج رقائق "كيرين" التي صممها مهندسو "هواوي" كانت مهددة بالتوقف في 15 سبتمبر/ أيلول المنصرم، لأنها مصنوعة من قبل مقاولين يحتاجون إلى تكنولوجيا التصنيع الأميركية، مضيفاً أن "هواوي" تفتقر إلى القدرة على صنع رقائقها الخاصة.