بذلت القوات الروسية محاولات حثيثة لاقتحام مصنع "آزوفستال للحديد والصلب" Azovstal Iron and Steel Works شرق مدينة ماريوبول الساحلية، جنوب شرقي أوكرانيا، إلى أن طلب الرئيس فلاديمير بوتين من وزير دفاعه، الأربعاء، عدم اقتحام المصنع حفاظا على أرواح جنوده، وطلب الاستعاضة عن ذلك بمحاصرة المصنع الذي يعد المعقل الباقي لأوكرانيا في هذه المدينة.
فما هو تاريخ هذا المصنع وأين تكمن أهميته وماذا عن تفاصيل خريطة بنائه؟
تمتد جذوره التاريخية إلى الحقبة السوفييتية سابقا، ويملكه حاليا رينات أحمدوف (أو أخميتوف) المُصنّف واحداً من أكبر المصدرين الأوكرانيين، ويعود تاريخ انطلاقته إلى 2 فبراير/شباط 1930، حين أصدر "المجلس الأعلى للاقتصاد الوطني السوفييتي" قراراً بإنشاء المصنع كواحد من أكبر مصانع المعادن والصلب على مستوى العالم، وبدأ عمليا تشغيل أوّل أفرانه عام 1931، قبل أن يُستكمل بناؤه تماما سنة 1933.
لكن القوات النازية ما لبثت أن دمّرت المصنع بالكامل أثناء تراجعها تحت وطأة ضربات الجيش السوفييتي عام 1943، إبّان الحرب العالمية الثانية، قبل أن تبدأ ورشة إعادة إعماره في العام التالي. إنما بعد تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991، سلك "آزوفستال" طريق الخصخصة، لتستقر ملكيته في نهاية المطاف بين يدي أحمدوف الذي يمتلك الشركة المستثمرة للمصنع "مِتإنفست" Metinvest وقدّرت مجلة فوربس ثروته بنحو 7.6 مليارات دولار عام 2021.
على أثر انطلاق الأعمال الحربية في فبراير/شباط 2022، أُصيب المصنع بالشلل، بعدما كان يُنتج سنويا في زمن السلم 4 ملايين طن من الفولاذ و3.5 ملايين طن من بقية المعادن و1.2 مليون طن من الفولاذ المجلفن، أي الذي خضع لعملية كيميائية تمنعه من التأكل.
وتقع المنشأة العملاقة في منطقة صناعية تطل على بحر آزوف وتشغل مساحة تتجاوز 11 كيلومترا مربعا، وتضم عددا كبيرا من المباني المقاومة للانفجارات ومسارات السكك الحديدية والأقبية والأنفاق تحت الأرضية، وفقا لصحيفة ذي غارديان البريطانية.
ويرى المراقبون في المدينة الصناعية التي يقع فيها المصنع موقعا استراتيجيا مهما تتطلع القوات الروسية للسيطرة عليه، لأنها تربط الموقع بالأراضي التي يسيطر عليها الانفصاليون الموالون لروسيا في الشرق بمنطقة القرم، والتي سبق أن استولت موسكو عليها عام 2014.
ونقلت صحيفة واشنطن بوست الأميركية عن المستشار في جماعة دونيتسك الشعبية الانفصالية الموالية لموسكو، يان جاجين، قوله لشبكة الأخبار الروسية الحكومية ريا نوفوستي: "تحت المدينة توجد مدينة أُخرى"، مشيرا إلى أن الموقع المحصّن مصمم لتحمّل القصف والحصار، ويحتوي على نظام اتصالات وأنفاق تسهّل على القاطنين فيه الانتقال من المدينة وإليها.
في عام 2014، نظّم عمال الصلب في "آزوفستال" حراكا لاستعادة السيطرة على مدينة ماريوبول بالقوة من الانفصاليين الموالين لروسيا، حيث انقلب أحمدوف على أتباع روسيا، ورفض دعم الغزو الروسي، ورغم خلافه مع الرئيس فولوديمير زيلينسكي، ساعد في تمويل الحكومة بدفع 34 مليون دولار دفعة ضريبية مُقدّمة، علما أنه شغل منصب نائب في البرلمان عن حزب المناطق الموالي لموسكو، واتُهم بالتورط في عالم الجريمة الغامض وبامتلاكه صلات مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
ويشكل المصنع مدينة كبيرة مترامية الأطراف على طول الواجهة البحرية لمدينة ماريوبول، ويضم عددا كبيرا من المباني المقاومة للنووي والانفجارات ومسارات السكك الحديدية والأقبية والأنفاق تحت الأرض. ولا يبدو المبنى من الداخل على ما هو عليه من الخارج، إذ يضم مدينة سفلية مشيدة على طول شبكته الجوفية، وفي طبقته التحتية الأولى، ويوجد طابق مزيف للتمويه يضم المواد الصلبة والتعدين والمواد الخام ليوحي بأنه وحدة تخزين نهائية.
ويخفي الطابق التمويهي مدينة سرية تبدأ بالظهور كلما تقدم المرء نحو عمق الأرض، حيث توجد طبقة سفلية ثانية، وتحتها طبقة أخرى تتكون من مزارع تنبت فيها مختلف أنواع الفواكه والخضراوات، بحيث يكون مطعم المصنع قادرا على تحقيق اكتفائه الذاتي، خاصة في الظروف الطارئة، وهو ما يفسر صمود المقاتلين الأوكرانيين المرابطين بداخله الآن.
وفي أسفل المنشأة الصناعية، توجد طبقة إضافية فيها مقهى وورشة، وتحتها طبقة تضم مساكن للقاطنين، بينما توجد في آخر الطبقات وحدة نظام ترتبط بوحدات التحكم موزعة على كل أجهزة الكمبيوتر العاملة في المدينة الصناعية، وبنظام اتصالات متطور، ما يجعل المقاتلين داخله قادرين على التواصل مع الخارج ومراقبة الحركة في محيط المبنى عبر كاميرات المراقبة المنتشرة في أرجائه.