يشعر بعض الناس بالقلق من تسبب ثورة الذكاء الاصطناعي التوليدي في إصابة الدول الفقيرة والنامية بخيبة أمل، خاصة بعد ما بدا من استحواذ وسيطرة لكبريات شركات التكنولوجيا في العالم على تطبيقاتها، إلا أن البعض يرى إمكانية لإحداث تغيير جذري في حياة الناس في الدول الفقيرة، من خلال زيادة الإنتاجية، وتقليص الفجوات في رأس المال البشري، بشكل أسرع مما كانت عليه الأمور من قبل.
وحتى الآن، يبدو أن أكبر الفائزين هم مجموعة من شركات التكنولوجيا الغربية التي تبنت تطبيقات مثل "تشات جيه بي تي Chatgpt"، بالإضافة إلى الشركات الناشئة في وادي السيليكون بسان فرانسيسكو، مع شركات التكنولوجيا الكبرى المعروفة باسم "العظماء السبعة" في أميركا. وعلى سبيل المثال، فمنذ إطلاق Chatgpt في عام 2018، أضافت المجموعة الأخيرة من الشركات أكثر من 4.6 تريليون دولار إلى قيمتها السوقية.
ولكن الاستفادة من تطورات الذكاء الاصطناعي لن تقتصر على الدول المتقدمة، بحسب ما رأى تحليل لمجلة "ذا إيكونوميست" في عددها الأخير، والذي اعتبر أن استفادة الدول النامية منها ستتوقف على قدرتها على تجاوز دور المتلقي السلبي للمنتجات والتطبيقات.
وقالت المجلة إن تلك البلدان يمكنها تشكيل مخرجات الذكاء الاصطناعي بما يتناسب مع احتياجاتها الخاصة، مشيرة إلى أن الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو أن ذلك قد يساعد تلك الدول على تقليل الفجوة في مستويات الدخل بينها وبين نظيراتها في الدول الغنية.
ويبشر الذكاء الاصطناعي، بمنتجاته وتطبيقاته، البلدان النامية والمتقدمة على حد سواء، بأنه سيكون أداة مفيدة لجميع الأغراض للمستهلكين والعاملين، مما يسهل الحصول على المعلومات وتفسيرها. ولمن يخشون اختفاء بعض الوظائف، وانتشار البطالة، تقول البشارة إنه من المؤكد أن هناك الملايين من الوظائف التي سيتم إدخالها إلى الأسواق، مما لم يكن موجوداً من قبل.
الذكاء الاصطناعي والبلدان النامية
ولأن البلدان النامية يكون لديها عادة عدد أقل من الموظفين الإداريين، فإن التعطيل والمكاسب التي تجنيها الشركات القائمة فيها قد تكون أقل مما هي عليه في الغرب. ويقول صندوق النقد الدولي إن ما بين خمس وربع العاملين في الدول الأفقر هم الأكثر عرضة للاستبدال، مقارنة بالثلث في الدول الغنية.
ويوفر الذكاء الاصطناعي ميزة للبلدان الفقيرة، من خلال توفير خدمات عامة أفضل وأكثر سهولة في الوصول إليها، حيث تعاني الاقتصادات النامية منذ فترة طويلة بسبب نقص العمال المتعلمين والأصحاء. وتظهر إحصائيات حديثة أن عدد التلاميذ في المدارس الابتدائية في الهند يبلغ ضعف عدد التلاميذ في نظيراتها الأميركية، إلا أنهم غير مجهزين لخوض هذا النضال. ومن ناحية أخرى، تعاني الدول الأفريقية من ندرة الكوادر المدربة بصفة عامة، لا سيما في المجال الطبي؛ ويصعب الوصول للمدرَبين بصورة سليمة، فتنشأ أجيال كاملة من الأطفال وهي على درجة ضعيفة من التعليم، وفي حالة صحية سيئة، وغير قادرة على الوفاء بمتطلبات سوق العمل العالمية المتزايدة.
وتُبذل الجهود على نطاق واسع، في مختلف أنحاء المعمورة، ومن خلال صناع السياسات ورجال الأعمال، لاستكشاف الطرق التي يمكن أن يساعد بها الذكاء الاصطناعي في إصلاح الأحوال في الدول الفقيرة وفي الاقتصادات النامية. وتَجمع الهند، على سبيل المثال، بين النماذج اللغوية المعقدة وبرامج التعرف على الكلام، لتمكين المزارعين الأميين من سؤال الروبوت عن كيفية التقدم بطلب للحصول على قروض حكومية. وسيقوم التلاميذ في كينيا قريبًا بطرح أسئلة على روبوت الدردشة حول واجباتهم المدرسية، وسيقوم برنامج الدردشة الآلي بتعديل وتحسين دروسه استجابةً لذلك.
أيضاً يقوم الباحثون في البرازيل باختبار الذكاء الاصطناعي الطبي، الذي يساعد العاملين في مجال الرعاية الأولية من غير المدربين على علاج المرضى. ويمكن أن تساعد البيانات الطبية التي يتم جمعها في جميع أنحاء العالم، وإدخالها في نظام التحكم الآلي، في تحسين التشخيص. وتقول "ذا إيكونوميست" إنه إذا كان الذكاء الاصطناعي قادراً على جعل الناس في البلدان الفقيرة أكثر صحة وتعليماً، فإنه ينبغي أن يساعدهم أيضاً على اللحاق بالعالم الغني في الوقت المناسب.
وتشير تطورات تطبيقات الذكاء الاصطناعي خلال الفترة السابقة إلى إمكانية نشرها بشكل أسرع من موجات التكنولوجيا السابقة. وفي حين استغرقت التكنولوجيا الجديدة التي تم اختراعها في أوائل القرن العشرين أكثر من 50 عامًا للوصول إلى معظم البلدان، يمكن للذكاء الاصطناعي الانتشار أسرع كثيراً، كونه متاحاً في الأداة التي يمتلكها ملايين الأشخاص، في كافة أنحاء الدول النامية، وهي الهواتف المحمولة الذكية. وكعادة تلك المنتجات، ستصبح روبوتات الدردشة، بمرور الوقت، أرخص كثيراً في توفيرها والحصول عليها.
وعلاوة على ذلك، يمكن تصميم التكنولوجيا بما يتناسب مع الاحتياجات المحلية. وحتى الآن، لا توجد دلائل تذكر على أن الذكاء الاصطناعي يخضع لتأثيرات مفادها قصر الاستفادة منه على شركات وسائل التواصل الاجتماعي والبحث على الإنترنت في أميركا، بما يعني وجود فرص للازدهار، في مختلف الاقتصادات والثقافات والظروف البيئية. ومؤخراً أخذ بعض المطورين في الهند بالفعل نماذج غربية، وقاموا بضبطها باستخدام البيانات المحلية، لتوفير خدمة ترجمة لغوية سريعة، وتجنب التكاليف الرأسمالية الباهظة لبناء النماذج من عدم.
ومع تركز التطورات المذهلة في منتجات الذكاء الاصطناعي في أميركا، تأتي براعة الصين في المرتبة الثانية، وذلك بفضل المعرفة التكنولوجية، والقدرات المالية الكبيرة لعمالقة الإنترنت فيها. وتماماً كترتيب أكبر اقتصادات العالم، تأتي الهند بعد الصين والولايات المتحدة في كفاءة استخدام وتطوير منتجات الذكاء الاصطناعي، حيث يتولى الذكاء الاصطناعي الإنتاجي فيها بعض مهام المكاتب الخلفية، كما أنها تعد موطناً لمشهد نابض بالحياة للشركات الناشئة، فضلا عن الملايين من مطوري التكنولوجيا. ولدى الهند أيضاً حكومة حريصة على استخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين بنيتها التحتية الرقمية.
وعلى نفس النحو، تظهر دول الخليج العربية، مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر، عزماً أكيداً على بناء صناعة الذكاء الاصطناعي، ضمن خططها للتحول عن النفط كمصدر أساسي للدخل وعماد للاقتصاد. وتقول "ذا إيكونوميست" إن هذه الدول لديها بالفعل رأس المال المطلوب، كما أنها تقوم باستقطاب المواهب.
ومن المرجح أن تقوم كل دولة بتشكيل التكنولوجيا بطريقتها الخاصة، حيث يرى البعض روبوتات الدردشة الصينية مدربة على الابتعاد عن سيرة رئيسها شي جين بينغ؛ ويركز المطورون في الهند على خفض الحواجز اللغوية؛ بينما تسعى الدول الخليجية لبناء نموذج لغوي عربي كبير. ولم تكن أميركا معصومة عن الانحيازات، حيث تقابل أغلب الأسئلة عن حقيقة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بإجابة تؤكد أن "هذا الأمر معقد، وبه الكثير من التفاصيل". ومع التسليم بعدم قدرة دول الجنوب على إزاحة التاج الأميركي، فإنه من الممكن تحقيق استفادة واسعة من الخبرات فيها، كما في الاقتصادات الكبرى الأخرى.