بعد الاتفاق التاريخي الذي توصلت إليه بريطانيا مع دول الاتحاد الأوروبي يوم الخميس الماضي، وتم على أثره طيّ صفحة "بريكست" الشاقة باتفاقية شاملة للترتيبات التجارية، يطرح المستثمرون مجموعة من الأسئلة حول مستقبل الاستثمار في بريطانيا، وكيف يمكن أن يتطور الفضاء التجاري الجديد لها، وماذا يعني اتفاق "بريكست" للمستثمر الأجنبي والعربي في هذا البلد؟
المؤكد حتى الآن أنّ هذا الاتفاق جاء أفضل من اتفاقية الشراكة التجارية بين دول الاتحاد الأوروبي وكندا، وكذلك أفضل من جميع اتفاقيات الشراكة التي وقعتها أوروبا مع دول الاقتصادات الكبرى، إذ إنه منح بريطانيا المرور التجاري للسلع من وإلى دول الاتحاد الأوروبي دون جمارك أو حصص في جميع السلع، ولكن بدءاً من الأول من يناير/ كانون الثاني ستواجه السلع البريطانية المصدرة إلى دول الاتحاد الأوروبي إجراءات الفحص للتأكد من المعايير والمصدر، وهو نفس الإجراء الذي ستتبعه بريطانيا مع دول الاتحاد الأوروبي، إلا أن اتفاقية الترتيبات التجارية بعد الانفصال لم تشمل الخدمات المالية التي تعد مهمة جداً لبريطانيا.
على صعيد الاستثمارات المباشرة، تقدر دراسة صادرة عن "مركز الاقتصاد والأداء" التابع لجامعة "لندن سكول أوف إيكونومكس"، حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في بريطانيا بنحو تريليون جنيه إسترليني (نحو 1.36 تريليون دولار)، وأن نحو نصف هذه الاستثمارات من مصادر غير أوروبية؛ أي إنها من شركات ومستثمرين لا ينتمون للدول الـ27 الأعضاء في الدول الأوروبية.
من بين تلك الاستثمارات استثمارات خليجية تقدر بنحو 200 مليار دولار معظمها في قطاع العقارات التجارية والسكنية الفاخرة.
وبالتالي من غير المتوقع أن يكون لاتفاق "بريكست" تأثير على هذه الاستثمارات غير المنقولة، ولكن العوائد التي تحصل عليها الشركات الخليجية المستثمرة ستعتمد على مستقبل تطور سعر الجنيه الإسترليني وعما إذا كان سيواصل الصعود إلى مستوياته قبل استفتاء العام 2016 البالغة 1.48 دولار، أم سيتراجع بعد الانفصال.
وكانت بريطانيا تستفيد من عضويتها في الاتحاد الأوروبي في زيادة التدفقات الاستثمارية المباشرة بسبب ربط سوقها بكتلة تجارية ضخمة، ولكن بعد انفصال بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لن يكون بإمكان هذه الاستثمارات المرور الاستثماري الحر إلى دول الاتحاد الأوروبي مثله في ذلك مثل السلع، وبالتالي ربما سترتفع كلفة المتاجرة مع أوروبا.
ويتوقع مركز الاقتصاد والأداء، أن تخسر بريطانيا جزءاً من هذه الاستثمارات لبعض الدول الأوروبية، وذلك ببساطة لأن الاقتصاد الأوروبي اقتصاد ضخم، كما أن عدد المستهلكين في أوروبا كبير جداً مقارنة ببريطانيا، وبالتالي فإن المستثمر الأجنبي ربما يفضل الكتلة الأوروبية على بريطانيا.
ويقدر البنك الدولي حجم الناتج المحلي للكتلة الأوروبية بنحو 18.377 تريليون دولار في العام 2020، ويقدر سكانها بنحو 510 ملايين نسمة، بينما يقدر حجم الناتج المحلي البريطاني بنحو 2.978 تريليون دولار. وبالتالي فإن بريطانيا كانت تستفيد من عضويتها بالسوق الأوروبي ومميزات اللغة الإنكليزية، لغة القطاع المالي العالمي، ومركزها المالي وشركات تدقيق الحسابات الكبرى والشركات القانونية في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر.
وحسب الدراسة الصادرة عن "مركز الاقتصاد والأداء" التابع لجامعة "لندن سكول أوف إيكونومكس"، فإنّ عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي كانت إيجابية بالنسبة لتدفقات الاستثمارات المباشرة إلى أراضيها.
وتشير الدراسة إلى أن بريطانيا في الاتحاد الأوروبي رفعت الاستثمارات الأجنبية المباشرة بالمملكة المتحدة بمعدل يراوح بين 14 و38%، وربما سيفقدها خروجها نسبة من الاستثمارات الأجنبية تراوح حول هذا المعدل. ولكن الدراسة تتوقع أن تخفف الشراكات التجارية التي تخطط لها بريطانيا وتلك التي وقعتها من الآثار السلبية لانفصال بريطانيا من أوروبا ولكن لن تقلصها بمعدل كبير.
على صعيد تجارة الخدمات المالية التي لم يتم تضمينها في الترتيبات التجارية بين دول الاتحاد الأوروبي، وإنما تركت للمفاوضات المستقبلية وفق بعض الفقرات التي أعلنت عنها الحكومة البريطانية يوم الخميس، فإنها ستكون أكثر تأثيراً بالانفصال عن الكتلة الأوروبية.
ووفق خبراء فإنّ مستوى التأثير سيعتمد على عاملين، هما: حاجة دول الكتلة الأوروبية للخدمات المالية الأوروبية وتطور الشراكات التجارية البريطانية، وبناء الفضاء التجاري، خاصة الشراكة التجارية مع أميركا التي تملك كبريات المصارف الاستثمارية في العالم.
ويلاحظ أن حي المال البريطاني ازدهر خلال الأربعة عقود الماضية لأن لندن أصبحت المركز المالي لأوروبا في التسويات المالية والاقتراض والتجارة والاستثمار مستفيدة في ذلك من وجود المصارف الاستثمارية العالمية الضخمة.
وتعد الخدمات المالية البريطانية من أكثر القطاعات ربحية في المملكة المتحدة من حيث ما ترفد به الحكومة من دخل، وكذا من حيث الفائض التجاري الذي تحققه للمملكة المتحدة. وحسب بيانات التجارة البريطانية الرسمية بلغ الفائض التجاري للقطاع المالي البريطاني 79 مليار جنيه إسترليني (نحو 106 مليارات دولار) في العام الماضي 2019.
والمؤكد في اتفاق "بريكست"، وفق مراقبين، أنّ المصارف والشركات المالية ستخسر "جواز المرور التجاري" الفوري الذي كانت تستفيد منه المؤسسات والمصارف المالية في خدمة زبائنها في أوروبا بحلول بداية العام الجديد الذي يسري فيه اتفاق "بريكست"، أي انفصال بريطانيا عن عضوية الاتحاد الأوروبي وتصبح دولة مستقلة بقوانينها وإجراءاتها المالية.
وقالت الحكومة البريطانية في وثيقة نشرتها الخميس، إنّ الاتفاق ضم فقرات تنص على مناقشة الخدمات المالية بشكل منفصل في المستقبل، وبالتالي هنالك قلق في أوروبا بشأن الاضطراب في أسواق المال الأوروبية بعد فترة الانفصال، خاصة في تسويات الصفقات المالية التي تمت تسويتها في بورصة لندن.
في هذا الصدد قال بيان صادر عن اتحاد أسواق المال الأوروبية بعد الاتفاق، "من الضروري حدوث تفاهم وصدور قرارات تقلل من الاضطراب في التسويات المالية بعد سريان الانفصال".
من جانبه، قال رئيس اتحاد الخدمات المالية في لندن، بوب ويغلي، "من المهم تعزيز هذا الاتفاق التجاري والبناء عليه لتأسيس ترتيبات مستقبلية في تجارة الخدمات المالية"، وذلك وفقاً لما ذكرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية.
وفي التاسع من ديسمبر/كانون الأول الجاري كتب اتحاد الأدوات التبادلية والمشتقات المالية العالمي الذي يوجد مقره في لندن إلى الاتحاد الأوروبي طالباً السماح بتسوية المشتقات المالية الأوروبية في بورصة لندن.
وجاء الخطاب في أعقاب إصدار المفوضية الأوروبية في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني قراراً بمنع تجار المشتقات المالية بالبنوك الأوروبية من تسوية صفقاتهم ببورصة لندن.
ويرى محللون ماليون أنّ الكتلة الأوروبية ستكون محتاجة إلى مركز لندن المالي خلال السنوات المقبلة، وبالتالي فإن النقاش المستقبلي بين بريطانيا وأوروبا حول تجارة الخدمات المالية ربما يتطور إلى تفاهم أكبر. ويلاحظ أن كلا الجانبين الأوروبي والبريطاني، ترك الباب مفتوحاً لحدوث مثل هذا التطور.
يذكر أنه منذ استفتاء "بريكست" في عام 2016 نقلت نحو 44 شركة ومؤسسة مالية مستقرة في حي المال البريطاني معظم موظفيها إلى مراكز أوروبية، حرصاً على عدم حدوث ارتباك لتجارة خدماتها المالية التي تقدمها لعملائها في أوروبا. كما هاجرت من بريطانيا أموال وثروات تقدر بنحو 1.2 تريليون جنيه إسترليني، وفقاً لتقديرات شركة "أيرنست آند يونغ" البريطانية لتدقيق الحسابات.