عدلت وكالة موديز للتصنيف الائتماني، الأسبوع الماضي، نظرتها المستقبلية لمصر من "مستقرة" إلى "سلبية"، مشيرة إلى المخاطر المتزايدة المتمثلة في استمرار ضعف الوضع الائتماني للبلاد، وسط صعوبة إعادة التوازن للاقتصاد الكلي، وحل مشكلة سعر الصرف.
ورغم التقدم الملحوظ في نظرة صندوق النقد الدولي، ووزارة الخزانة الأميركية، ومسؤولي الاتحاد الأوروبي، لحالة الاقتصاد في مصر، وبغض النظر عن أسباب ذلك، قالت الوكالة إن "إجراءات السياسة وأوجه الدعم الخارجي قد تكون غير كافية لمنع إعادة هيكلة الديون".
وقالت "موديز" في بيان إنّ "الزيادة الكبيرة في مدفوعات الفائدة والضغوط الخارجية المتزايدة أدت إلى تعقيد عملية تكيف الاقتصاد الكلي". وأكدت الوكالة التصنيف الائتماني للبلاد عند Caa1.
ويشير تصنيف Caa1 لدى موديز إلى تصنيف ائتماني "عالي المخاطر، ويدل على ضعف الملاءة المالية، وتزايد احتمالات التعثر عن سداد الديون"، وفقاً لتعريف الوكالة.
ووصف وزير المالية المصري محمد معيط قرار الوكالة بأنه "لم يكن موفقاً"، لأنه رأى أن موديز لم تأخذ في اعتبارها "الجهود الحالية للحكومة المصرية" عندما غيرت نظرتها المستقبلية إلى سلبية، إذ إنّ "برنامج الطروحات يُعزز قدرتنا على تلبية الاحتياجات التمويلية خلال العامين المقبلين، ويُساهم في جذب المزيد من التدفقات الاستثمارية، والحد من الاحتياج للتمويل الخارجي".
وقالت الوزارة إنّ الدولة المصرية "نجحت في التخارج" من عدد من الأنشطة الاقتصادية بقيمة 3.5 مليارات دولار ضمن برنامج الطروحات، بما يساعد على زيادة تدفقات النقد الأجنبي، لتغطية احتياجات الاقتصاد المصري.
تجاهل الوزير حقائق واضحة، أهمها أنّ هذا المدعو "برنامج الطروحات" لم يكن إلا بيعاً لمجموعة من أفضل الشركات العاملة في مصر وأكثرها ربحية، وأغلبها يصدر للخارج، كما في حالة أبوقير للأسمدة، أو يقدم خدمة بالعملة الأجنبية، كمجموعة الفنادق التي تم بيعها أخيراً، وهو ما يعني حرمان الحكومة من هذه الإيرادات الدولارية من الآن فصاعداً!
ومن ناحية أخرى، غاب عن الوزير أن مشتري الحصص في هذه الشركات سيسعون إلى تحويل أرباحهم إلى الخارج مع بداية كل عام، وهو ما سيعني أمراً من اثنين، فإما زيادة في الطلب على الدولار في مصر، أو نقصاً في تحويلات العاملين في الخارج، لو لم يجد المستثمرون الخليجيون استجابة من البنوك المصرية.
أكدت وزارة المالية المصرية أنّ "الحكومة تعمل على إدارة مخاطر الاقتصاد الكلي بمرونة، لاحتواء الصدمات الخارجية المتتالية، وتتعامل بتوازن وحرص شديدين مع الآثار السلبية الناتجة عن التوترات الجيوسياسية المؤثرة على النشاط الاقتصادي".
ويؤكد هذا التصريح إصرار الحكومة المصرية على تصوير الأزمة الحالية على أنها نتيجة للتوترات الجيوسياسية، أو أمور أخرى خارجية لم تكن لها سيطرة عليها، بداية من وباء كوفيد (الذي جنت مصر بسببه ما يقرب من ثماني مليارات من الدولارات من صندوق النقد الدولي)، ثم غزو روسيا لأوكرانيا، وحتى العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، الذي جاء بعد ما يقرب من عامين من احتدام أزمة السيولة الدولارية في مصر.
وحقيقة الأمر أن التأثير السلبي الكبير الناجم عن هذه الأحداث لا يبرئ ذمة الحكومة المصرية بقدر ما يؤكد على الاختلالات الهيكلية الموجودة في الاقتصاد، والتي لطالما نادى الكثيرون بعلاجها، فاتهموا بالعمالة، وبكونهم أهل الشر وأعداء النجاح! ولو كانت الحكومة تتصور أنها جاءت لإدارة اقتصاد في عالمنا هذا، بشرط ألا تكون هناك أوبئة، وألا تعتدي دولة على أخرى، حتى لو كانت على بعد آلاف الأميال، وألا يواصل جيش الاحتلال عدوانه الغاشم على إخواننا الفلسطينيين، لكنا استغنينا عنها، واكتفينا بدعاء الوالدين.
أوضح بيان الوزارة أن الحكومة تستهدف الاستمرار في تنويع الأسواق الدولية، خاصة بعدما نجحنا في العودة مجدداً للأسواق اليابانية، وقد تم تنفيذ الإصدار الدولي الثاني من سندات "الساموراي" بما يعادل نحو نصف مليار دولار، بالإضافة إلى إصدار سندات دولية مستدامة بسوق المالية الصينية (الباندا)، بما يعادل نحو نصف مليار دولار.
وأشار بيان وزارة المالية إلى إمكانية الحصول على نحو 5 مليارات دولار سنوياً بشروط ميسرة من البنوك التنموية متعددة الأطراف، الأمر الذي يعكس ثقة هذه المؤسسات الدولية بالمسار الاقتصادي الذي تنتهجه الحكومة المصرية.
وأشارت الوزارة إلى التدابير الإصلاحية لإدارة الدين الحكومي التي كان من بينها إطالة عمر دين أجهزة الموازنة ليبلغ 4 سنوات في المدى المتوسط بدلاً من 3 سنوات في الوقت الحالي، لتقليل الحاجة إلى التمويلات السريعة.
وكل هذه العبارات تؤكد مرة أخرى أن الحكومة لا ترى حلاً لأزمتها إلا بالمزيد من الاستدانة، ما استطاعت إليه سبيلا، فتارة نراها تتباحث مع صندوق النقد الدولي، طالبة زيادة التسهيل المقدم لها، رغم أنها لم تنجح في الوفاء بشروط الصندوق لصرف القسطين الثاني والثالث من مبلغ 3 مليارات دولار تم الاتفاق عليه في ديسمبر/ كانون الأول 2022، وأخرى تلجأ للمؤسسات الدولية، وذلك بخلاف السعي للحصول على المزيد من الدول الخليجية، برغم المبالغ الضخمة التي اقترضناها منهم، والتي نجبرهم على تجديدها كلما حل موعد سداد جزء منها.
عفواً دكتور معيط. "موديز" أخذت بالفعل "الجهود الحالية للحكومة المصرية" للتعامل مع الأزمة، لكنها وجدتها كلها في إطار محاولات توفير السيولة الحالية بأي ثمن، لتجنب التعثر في خدمة الديون، وبغض النظر عن الكلفة التي نتحملها في المستقبل.
أدركت "موديز" أن "الجهود الحالية للحكومة المصرية" كان أغلبها موجه نحو البحث عن مصادر جديدة للاقتراض، ومن ثم زيادة في خدمة الدين، وما يترتب عليها من ارتفاع عجز الموازنة، وانخفاض المبالغ المتاحة للإنفاق على الصحة والتعليم والبحث العلمي، أو بيع للأصول بأثمان بخسة، وفقدان ما كانت تدره من إيرادات مستقبلية بالعملة الأجنبية، أو رفع للفائدة على أمل جذب الأموال الساخنة.
عرفت "موديز" أننا نلهث لشراء اللحظة على حساب المستقبل، فخفضت النظرة المستقبلية... وصراحة فقد "عدّاها العيب"!