ما بين ربيع بارد في أوروبا، وصيف شديد الحرارة في أميركا وآسيا، بالإضافة إلى خطوات استعادة النشاط الاقتصادي، وتحديداً الصناعي، جزءاً كبيراً من حيويته بعد فترة سبات صاحبت ظهور وانتشار وباء كوفيد-19، ارتفع الطلب على الغاز الطبيعي المسال كما على كل مصادر الطاقة، في جميع أنحاء العالم، الأمر الذي تسبب في ارتفاع أسعاره، لتصل فاتورة الغاز في المنزل المتوسط الأميركي إلى أكثر من ضعف ما كانت عليه في نفس التوقيت من العام الماضي.
ومع عدم كفاية البدائل، بعد ضعف الرياح في أوروبا هذا العام، وتراجع الإنتاج الكهرومائي نتيجة لقلة الأمطار، وارتفاع تكلفة الفحم، كما بطء عودة الاستثمارات إلى قطاع النفط الأحفوري بعد معاناة العام الماضي، لا يبدو أن الشتاء القادم سيكون سهلاً على الولايات المتحدة، رغم كونها أكبر منتج له في العالم، سواء من حيث التكلفة المتوقعة للغاز خلال الفترة القادمة، أو من حيث الخطط المزمع القيام بها للتحول باتجاه الطاقة النظيفة، التي يلعب فيها الغاز دوراً أساسياً.
وفي الوقت الذي شهدت فيه منطقة شرق البحر المتوسط اكتشافات ضخمة على مدار الأعوام الثلاثة الأخيرة، كانت روسيا تعمل على إبطاء إمداداتها منه لأوروبا عن طريق أوكرانيا، كنوع من الضغط للحصول على موافقة الدول الأوروبية، والولايات المتحدة بطبيعة الحال، على الخط الجديد الذي تعمل على إنشائه، والمعروف باسم "نورد ستريم 2"، بخلاف ما تسبب به تعطل الإنتاج في أحد مصانع الغاز الروسية في سيبيريا، بعد نشوب حريق ضخم فيه.
وبينما اعتمدت الولايات المتحدة على إنتاجها الضخم من الغاز، اضطرت المملكة المتحدة إلى وضع حد أقصى على سعر الغاز لديها، بينما قامت الحكومة الإيطالية بدعم أسعار توفيره للمواطنين، وكلا البلدين واجها هجوماً حاداً من مؤيدي حرية الأسواق، ومن المنتفعين من ارتفاع الأسعار بالطبع.
وبخلاف المواطنين الطامعين في ضبط درجة الحرارة في منازلهم، هرباً من الحر أو البرد القارس، يمثل ارتفاع أسعار الغاز خبراً سيئاً تقريباً للجميع، من صانعي السيارات في الصين والولايات المتحدة، إلى زبائن محلات الحلوى في باريس والبيتزا في إيطاليا.
وبعد وصولها إلى أعلى مستوياته في أكثر من سبع سنوات، أصبح ارتفاع سعر الغاز أحدث العقبات التي تقف في طريق استعادة النشاط الاقتصادي الأميركي والعالمي لزخمه.
ولو جاء الشتاء القادم ببرودة قاسية كالتوقعات، ستعاني الأسر الأميركية من ارتفاع التضخم الذي سيلتهم جزءاً كبيراً من دخولهم، ليتراجع إنفاق المستهلكين الذين كان له الدور الأكبر في الانتعاش الاقتصادي الطويل الذي شهدته الولايات المتحدة لأكثر من عقد من الزمان، قبيل ظهور فيروس كوفيد-19 وانتشاره في البلاد، وتعطيله للطلب والعرض، وتسببه في ركود الاقتصاد.
وفي لقاء تلفزيوني مع شبكة بلومبيرغ الإخبارية، قال بروس روبرتسون، المحلل في معهد اقتصاديات الطاقة، إن "الطاقة تكمن في أساس الاقتصاد، ويتردد صدى ارتفاع أسعارها عبر سلاسل الإمداد، وهو ما قد يترتب عليه إضعاف انتعاش الاقتصاد الذي مازال في بدايته".
وتخلق أسعار الغاز والطاقة المرتفعة ضغوطاً تضخمية كبيرة على كافة تكاليف الإنتاج، وهو ما سيتم تمريره بالضرورة إلى المستهلك خلال الفترة القادمة، فعندما ترتفع فواتير الخدمات لدى الشركات والمصانع، يسعى هؤلاء إلى رفع أسعار السلع والخدمات التي يبيعونها، وهو ما يؤدي إلى تفاقم الضغط التضخمي الناتج عن تعطل سلاسل الإمداد.
وبحسب شريف نافع، خبير أسواق النفط، والمدير السابق في عملاق النفط العالمي هاليبرتون، والرئيس التنفيذي حالياً لشركة The Seven Drilling Technology لتقنيات الحفر، فإن "استمرار الأسعار في الارتفاع سيؤدي إلى ارتفاع تكلفة وسائل النقل، وهو ما يعني ارتفاع تكلفة إنتاج السلع بشكل مطرد، ما سيؤدي إلى تأثيرات سلبية على معدلات نمو الاقتصاد الأميركي".
وبعد تجاوز سعره في أسواق نيويورك 5 دولارات للمليون وحدة حرارية بريطانية هذا الشهر، يكون سعر الغاز الطبيعي وصل إلى أكثر من ضعف سعره في شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، إلا أن مجموعة سيتي المصرفية ضاعفت توقعها لسعره يوم الخميس الماضي، مشيرة إلى إمكانية وصوله في أسواق أوروبا وآسيا إلى مائة دولار خلال الربع الأخير من العام الحالي، والذي يبدأ يوم الجمعة القادم، في حالة حدوث برودة شديدة في الشتاء القادم.
وارتفعت أسعار الغاز الطبيعي المسال بشكل كبير، حيث أدى انخفاض المخزونات الأوروبية الموسمية وتزايد الطلب الصيني وتقييد العروض من روسيا إلى نيجيريا، إلى حرب مزايدة على المواد الأولية لتوليد الطاقة قبل فصل الشتاء في كافة أنحاء المعمورة.
وقفزت الأسعار المعيارية في اليابان وكوريا بنسبة 50% تقريباً هذا الشهر إلى ما يقرب من 30 دولاراً لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، بينما ارتفع سعر الغاز الطبيعي المسال في أوروبا بنحو 40% ليقترب من 25 دولاراً، وهو ما ينذر بارتفاع مماثل في الأسعار في الولايات المتحدة خلال الفترة القادمة، رغم استقرارها إلى حد كبير حتى الآن.