ينسحب انهيار الاقتصاد اللبناني نحو القطاع الاستشفائي جارفاً معه سمعة هذا البلد الذي كان يعتمد على السياحة الطبية لسنوات طويلة. ومع تعثر العديد من المستشفيات مالياً، انطلقت عمليات دمج واسعة النطاق، خاصة في ظل عدم قدرة بعض المستشفيات على الصمود والاستمرار في تقديم الرعاية الطبية والصحية للمرضى ودفع أجور عامليها.
إلا أن متابعي الملف الاستشفائي في لبنان يؤكدون أن الأسباب لا ترتبط فقط بالأزمة، وإنما بالفواتير المضخمة التي اعتادت المستشفيات على فرضها والتي سعت إلى إبقائها حتى بعد الانهيار المالي في البلد، ما أدى إلى تراجع كبير في عدد المرضى.
وفي حين يوجد 130 مستشفى خاصاً في لبنان، قال نقيب المستشفيات الخاصة في لبنان سليمان هارون، لـ"العربي الجديد"، إن نسبة المتعثرة منها تصل إلى 25 في المائة تقريباً، فيما المستشفيات القادرة على احتواء المرافق المأزومة لا تتعدى الخمسة ولا يمكنها حكماً استيعاب كل المستشفيات.
وشرح هارون أن عمليات الدمج شملت حتى الآن 6 مستشفيات، بحيث أصبحت تحت إدارة 3 مستشفيات كبرى في بيروت، هي الجامعة الأميركية، مستشفى القديس جاورجيوس، ومستشفى أوتيل ديو، ولفت إلى مباحثات مع مستشفيات أخرى للغاية نفسها.
وأشار هارون إلى أن المستشفيات التي جرى دمجها، سواء متوسطة أو صغيرة، هي متعثرة مادياً وغير قادرة على الاستمرار، فالتكاليف التشغيلية أصبحت مرتفعة جداً، والمدخول لا يكفي لتغطيتها، ولم يعد بالتالي هناك توازن مالي يساعدها على الصمود.
تداعيات الأزمة
وعدّد هارون المستشفيات المندمجة، وهي مستشفى KMC الذي انضمّ إلى مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، ومستشفى البرجي في الكورة (شمال لبنان) الذي انضمّ إلى مستشفى القديس جاورجيوس في بيروت، أما المستشفيات التي انضمت إلى مستشفى أوتيل ديو في بيروت، فهي، "سان شارل"، "القرطباوي"، "تل شيحا"، و"سيدة السلام".
ولفت هارون إلى أن هذه التغيّرات لن تؤثر كثيراً على الموظفين والطاقم التمريضي والطبي، باعتبار أن نشاط المستشفى سيزيد مع التخلص من المشكلات المادية، ما يفتح فرص عمل جديدة.
ومنذ الأزمة الاقتصادية التي انكشفت في البلاد أواخر عام 2019، أطلق هارون أكثر من تحذير بأن بعض المستشفيات لن تصمد طويلاً وستقفل أبوابها، منبهاً إلى نية العديد منها الاغلاق أو البحث عن مستثمرين جدد.
وفاقمت الأزمة الاقتصادية أوضاع المستشفيات التي كانت تعاني أصلاً من مشاكل كثيرة مع عدم سداد الحكومات المتعاقبة، ولا سيما منذ عام 2011، مستحقاتها، بما فيها تلك المتوجبة على الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والصناديق الصحية العسكرية والتي قدِّرت بـ1.3 مليار دولار، قبل أن تستأنف التسديد تدريجياً ولكن مع تأخير المدفوعات.
ويعاني نظام الرعاية الصحية في لبنان من تفككٍ خطيرٍ ربطاً بالأزمة الاقتصادية، وسبق أن دقت المستشفيات الخاصة التي تشكل 82 في المائة من القطاع الصحي في لبنان ناقوس الخطر، ونفذت أكثر من اضراب تحذيري، لحثّ المسؤولين على التحرّك ودفع مستحقاتها.
كما نفذ الممرضون والممرضات تحركات احتجاجية كثيرة خلال هذه السنوات، بسبب عدم تلقي رواتبهم بالوقت المحدّد وانخفاض قيمتها بفعل انهيار العملة الوطنية.
مستشفيات "دكاكين"
من جهته، أمل رئيس "الهيئة الوطنية الصحية الاجتماعية – الصحة حق وكرامة"، النائب السابق الدكتور إسماعيل سكرية، في حديثه مع "العربي الجديد"، أن يكون الدمج على قاعدة التخفيف من المستشفيات "الدكاكين" (المتاجر)، معتبراً أنه في حال أصبحت هذه الدكاكين تحت إدارة مستشفيات أخرى وحسّنت من أدائها وتطبيقها للقانون فهذا أمرٌ جيدٌ ويعطي سمعة إيجابية للقطاع، أما في حال الدمج لإنقاذ دكانة من دون أي تحسين في الخدمات فلن يكون للخطوة أي تأثير، وستبقى هذه الأخيرة تمارس عملها في ذات الاتجاه السيئ.
وأشار سكرية إلى أن واقع لبنان الاستشفائي مأزوم منذ أكثر من عقدين ونصف عقد، بيد أن الأزمة الاقتصادية التي ضربت البلاد عام 2019 صعّدت المشكلة بشكل مقلق وخطيرٍ، لافتاً إلى أنه فتح الملف قبل 26 سنة، وحذّر من لعبة التشاطر التي كانت قائمة بين أطراف القطاع الصحي، وزارة كانت أم مستشفيات والمؤسسات الضامنة، والتي كانت تضخم الفواتير للحصول على أموال لا تستحقها من الصناديق الضامنة ووزارة الصحة، في مشهدية كان مصيرها معروف في ظل التدهور المالي المتراكم.
ولفت سكرية إلى أنه حذر مراراً من المعادلة التي يقوم عليها الاستشفاء في لبنان، وهي معادلة استهلاكية بامتياز، مع نفخ الفواتير وطبع فواتير وهمية وإبقاء المريض مدة أكبر داخل المستشفى لتضخيم القاتورة بالتواطؤ مع وزارة الصحة، وهذا كلّه من أسباب انهيار القطاع الذي نعيشه اليوم.
وفي تعليقه على عدم استقبال المرضى قبل دفع المال حالياً، وعملية الاذلال التي يتعرّضون لها على أبواب اقسام الطوارئ والفواتير الباهظة التي تدفع بالمواطن إلى انتظار موته في المنزل، من دون طلب الخدمات الطبية والصحية، رد سكرية هذه الظواهر إلى سببين، الأول الانهيار العام في لبنان والذي يتراكم ويزيد ليس فقط اقتصادياً بل اخلاقياً، وهو حال دوائر الدولة أيضاً، وهناك تراخ يشكل امتداداً لجزء من الانحدار الحاصل في المجتمع.
أما السبب الثاني، بحسب سكرية، فإن طريقة التعاطي مع المريض قد تعود إلى لامبالاة العاملين في المستشفيات ربطاً بأزمة رواتبهم التي تفقد قيمتها، وتعتبر ضئيلة، علماً أنه في المقابل، هناك تشدد من المستشفيات بما فيها الحكومية برفع الفواتير على المرضى، ما يعني أن المريض لم يعد حتى قادراً على اللجوء إلى مستشفى حكومي في حال كان عاجزاً عن دفع فواتير المستشفيات الخاصة، وهذا كله يؤدي إلى تراجع نسبة الدخول إلى المستشفيات، ويزيد من غصّة المواطن والمريض العاجز عن تأمين تكاليف علاجه.
تراجع نسبة الإشغال
في السياق ، قال هارون، لـ"العربي الجديد"، إن الواقع الجديد على صعيد الفواتير، التي زادت بفعل الأزمة النقدية، أدى إلى تراجع نسبة إشغال المستشفيات، خصوصاً أن المريض المضمون على حساب وزارة الصحة والضمان الاجتماعي يتكبّد فروقات عالية عند دخوله المستشفى، وهناك مستشفيات عدة اضطرت إلى اقفال بعض اقسامها بسبب تراجع الإقبال ولتوفير النفقات.
وأشار هارون إلى أن هذه الظاهرة خطيرة جداً باعتبار أن المرضى أصبحوا يفضّلون البقاء في منازلهم بدل الذهاب إلى المستشفى، وهذا أيضاً له انعكاس على الأخيرة التي يتراجع بهذه الحالة عملها ومدخولها الذي انخفض إلى أقلّ من النصف، في حين بقيت مصاريفها على حالها ولا سيما الثابتة منها على صعيد فواتير الكهرباء والمازوت للمولدات الخاصة والرواتب وغيرها، ما أوقع غالبية المستشفيات بحالة عجز كبيرة، وجعلها غير قادرة على تغطية نفقاتها التشغيلية.
ومن أبرز أسباب الأزمة، عدّد هارون التأخر في دفع الجهات الضامنة الرسمية مستحقات المستشفيات، وعدم رفع الجهات الضامنة الرسمية معدل تعرفاتها لتواكب الانهيار النقدي وارتفاع سعر صرف الدولار، خصوصاً وزارة الصحة والضمان الاجتماعي، ولم تعد بالتالي على المستوى الذي كانت عليه عام 2019، حتى من جانب شركات التأمين، ما يعني مردوداً أقلّ للمستشفيات، علماً أن بعض الجهات رفعت تعرفتها، مثل الطبابة العسكرية وتعاونية موظفي الدولة.