تدرس المصارف اللبنانية قرار الإقفال التام بعد خطوة الإغلاق الجزئي، التي بدأتها الثلاثاء الماضي في إطار الإضراب العام المفتوح رفضاً للاستدعاءات القضائية وبعض القرارات الصادرة بحقها، والتي، على حدّ تعبيرها، تؤثر على انتظام العمل المصرفي وحقوق المودعين.
وفي وقتٍ تحتجّ المصارف على الأحكام القضائية الصادرة بحقها وعدم الاعتراف بالشيك المصرفي كوسيلة دفعٍ وإيفاء للودائع وإلزامها بالتعامل النقدي، يعتبر خبراء اقتصاديون أن خطوة البنوك ليست إلا وسيلة ضغط جديدة للإفلات من المحاسبة والمساءلة قضائياً ومن القرارات التي تلزمها تسديد مستحقات المودعين.
كما رُبِطت بالضغط على البرلمان نحو إقرار بعض التشريعات المالية، على رأسها قانون الكابيتال كونترول، الذي يؤمن لها الحماية، خصوصاً أن رئيس مجلس النواب نبيه بري دعا بعد الإعلان عن الإضراب هيئة مكتب المجلس إلى الاجتماع يوم الإثنين المقبل.
تأتي هذه التطورات، وخطوة المصارف التي تتريث عن الإعلان عنها رسمياً، وقد تتراجع عنها تبعاً للمستجدات على خطى المسؤولين السياسيين، في وقتٍ يواصل سعر صرف الدولار ارتفاعه متجاوزاً يوم الجمعة حاجز 65 ألف ليرة لبنانية.
ويقول مصدرٌ مصرفيٌّ لـ"العربي الجديد" إن "هناك مشاورات تجرى حول الخطوات الواجب اتخاذها في ظلّ الهجمة التي تتعرّض لها البنوك، والقرارات القضائية المجحفة بحقها التي تنفذ أجندات سياسية، والصمت المريب من الجهات الرسمية التي لها اليد الأساسية في انهيار القطاع المصرفي"، مشيراً إلى أن "الإجراءات لن تكون كالسابق، وفي حال تقرّر الإقفال، فسيكون شاملاً ليطاول خدمات الزبائن ووقف جميع العمليات المصرفية من دون استثناء".
وأعلنت جمعية المصارف، يوم الإثنين الماضي، الإضراب المفتوح اعتباراً من 7 فبراير/شباط الجاري، مع تأمين استمرار الخدمات الأساسية للزبائن، وذلك ربطاً بالدرجة الأولى بالقرار القضائي الصادر في 1 فبراير بحق "فرنسبنك"، الذي أعطى الحق لمودعَيْن اثنَيْن باستيفاء وديعتهما نقداً بالدولار الأميركي، أي بعملة الإيداع، الأمر الذي دفع المصرف المذكور إلى إقفال كافة فروعه في جميع المناطق اللبنانية.
بداية، يقول الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمود، لـ"العربي الجديد"، إن "المصارف اليوم بأدنى مستويات الخدمات بعد إعلانها الإضراب، لكن التهديد بالإقفال التام أمرٌ مسيء جداً للبلد، وللمصارف والمودعين بالدرجة الأولى".
ويرى حمود أن "صرخة المصارف مفهومة، ويمكن استيعابها وتداعياتها، فهم أصبحوا في موقع اتهام بالسرقة والنهب، علماً أنه مهما حُكيَ، فإن القطاع المصرفي كانت لديه أموال خاصة بـ21 مليار دولار تكاد تكون تبخّرت، والمشكلة الأكبر نوعاً ما خسارة المودعين ودائعهم".
ويشدد حمود على أن "الاضراب التام غير مقبول، وفي حال حصل في إطار إثبات الموقف، فيجب أن يكون لمدة قصيرة جداً، إذ لا يمكن للقطاع المصرفي، وبعدما وصل إلى أدنى مستويات الخدمة للزبائن، أن يوقفها بالكامل، وأعتقد أن المصارف حتى داخل الجمعية ليست كلها على رأي واحد. طبعاً الكل يجمع على أن توجيه الاتهام الأكبر والوحيد للمصارف فيما حصل غير صحيح وظلم، ولكن رفع الظلم لا يكون بظلم أكبر على الناس".
ويلفت الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف إلى أن "تداعيات الغقفال التام ستكون ضخمة وكبيرة، وستدفع أكثر للاستغناء عن البنوك والذهاب نحو الاقتصاد النقدي، حتى التجار الكبار سيفتشون عن مصارف خارج البلد للعمل وإجراء كل الدفعات والتسديدات عبرها، وهذا صعبٌ، خصوصاً أن كل مبيعاتهم في لبنان نقدية".
ويردف حمود أن "من واجب الحكومة أن تتجاوب مع المصارف، وتتباحث معها في الحلول، وعلى الدولة أن تعرف أن المسؤولية الكبرى تقع عليها، فهي ظلمت المودعين والبنوك بدءاً بالتخلّف عن الدفع وانتهاءً بعدم سنّ تشريعات لتنظيم العمل المصرفي نتيجة الأزمة".
من جهتها، تقول المحامية في "رابطة المودعين" دينا أبو زور، لـ"العربي الجديد"، إننا "اعتدنا على عملية الابتزاز التي تقوم بها المصارف، لكن هذه المرّة على مستوى أكبر يطاول المودعين والقضاء والدولة"، مشيرة إلى أن "المصارف كانت طوال الفترة الماضية محمية من مجموعة من السياسيين والقضاة، بيد أن قضية فرنسبنك كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير".
وتردف أبو زور: "كذلك، وجدت المصارف نفسها بموقع خطر، خصوصاً أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يُلاحق في الخارج وهناك توجه لإصدار قرارات قضائية بحقّه، عدا عن الدعاوى الفردية التي رفعت في الخارج بوجه البنوك وربحها المودعون، كما أن أكبر دليل على الابتزاز هو البيان الصادر عن جمعية المصارف الذي يناقض كلّ مسيرتها السابقة، وللتذكير أنها عام 2019، أشادت بموقف رياض سلامة الرافض للكابيتال كونترول والهيركات، واليوم نجدها تنادي بإقرار القانون".
وتلفت أبو زور إلى أن النسخة التي سُرّبت عن الكابيتال كونترول وجرت دراستها وتعديلها في اللجان النيابية المشتركة أقلّ ما يقال عنها أنها تصبّ مباشرة في مصلحة المصارف، خصوصاً المادة 10 منها التي تعفيهم من القرارات القضائية، وتعلّق تنفيذ تلك التي صدرت في حال لم تكن قد نفّذت بعد، وبالتالي، تعلّق مسار العدالة وتوقف الدعاوى أمام القضاء، حتى إذا صدرت أحكام، فإنها لا تطبق إلاّ بعد انتهاء مفعول القانون الذي حُدِّد لسنة قابلة للتمديد".
وتشير أبو زور إلى أننا "نتخوف اليوم من أنه بدل الذهاب نحو سلة من التشريعات، ضمنها الكابيتال كونترول وإعادة هيكلة المصارف، أصبحنا متجهون إلى قانون كابيتال كونترول يصبّ في مصلحة المصارف، علماً أنها منذ مدة أصدرت بياناً قالت فيه إنها لا يمكن أن تتحمّل مبلغ الـ800 دولار المحدد في القانون، بل فقط 200، على أن يغطي مصرف لبنان الباقي"، لافتة إلى أن ما يحدث جنون مالي وتشريعي، المستفيد الأول فيه المصارف.
وتتوقف المحامية في "رابطة المودعين" عند اجتماع عقدته المصارف مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، الذي وعدها بحلولٍ، وتقول: "أي رئيس حكومة يعطي وعداً لمصارف سرقت مال الناس وحرمتهم جنى عمرهم بحلولٍ، في وقتٍ هي أيضاً تبتز الناس، وتقفل أبوابها بوجههم، وتتجه حسب معلوماتنا، الأسبوع المقبل، إلى الاقفال التام، أي إيقاف جميع العمليات المصرفية، بما في ذلك خدمات الزبائن الإلكترونية، وعبر الصراف الآلي، ووقف فتح الاعتمادات للاستيراد، وكافة المعاملات التي تجرى داخل البنوك، الأمر الذي يعني انهيار كامل لعجلة الاقتصاد".
وتؤكد أبو زور: "سنتخذ إجراءات قضائية بحق المصارف لإلزامها بإعادة فتح أبوابها، ونحن بهذا الصدد، لأن ما يحصل ابتزاز واضح وفاضح، ولا يصبّ إلا في مصلحة البنوك، كما أننا نتخوف من أن تكون هذه الخطوة استكمالاً لخطة الظل التي كانت موجودة في الأصل، حيث إن المصارف لا تريد الذهاب إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، بل تسعى للبقاء ضمن دائرة تعاميم مصرف لبنان، وقانون الكابيتال كونترول الذي يؤمن لها الحماية التي تنتظرها".
وتلفت أبو زور إلى أن حديث المصارف عن أن هناك أزمة منظومة هو هروب إلى الأمام وتهرب من المسؤوليات، وقد اعتدنا هذا الأسلوب، والدليل الأكبر لمخطط المصارف تعميم حاكم مصرف لبنان الذي أعطاهم مجال إعادة الرسملة بشكل دفتري "مضحك" على خمس سنوات، ما يؤكد أننا أمام مشهد ابتزاز وتواطؤ بين السلطتين المصرفية والسياسية وبعض الجهات القضائية.
بدوره، يقول رئيس "جمعية المودعين" حسن مغنية لـ"العربي الجديد": "صحيح أن المصارف هي قطاع خاص، لكنها تتعاطى الشأن العام، وبالتالي، فإنه أخلاقياً وقانونياً لا يحق لها الإضراب، خصوصاً أن هناك رواتب وأجورا ومصير موظفين وفواتير يجب أن تدفع، لذا لا يمكن أن تتصرف على هواها".
ويلفت مغنية إلى أنه "حسب معلوماتنا، قد يصدر قرار قضائي يلزم المصارف بفتح أبوابها، فالإضراب تعسّفي ولا يمكنها الاستمرار به".
ويشير إلى أن "الإضراب ليس صدفة، إنما واضح أنه أتى بالتنسيق مع مجلس النواب للضغط عليه من أجل تمرير مشروع قانون الكابيتال كونترول بصيغته المسخ التي تحمي المصارف من الدعاوى القضائية، من هنا، كان تحرّك اللجان النيابية والهيئة السريع لإتمام المسار".
من ناحية ثانية، يرى مغنية أن "تعميم مصرف لبنان الأخير إيجابي، ويصبّ في صالح المودعين، لناحية أن المصرف لم يعد قادر على إقفال حساب أي مودع عبر شيك مصرفي عند كاتب العدل، وهذا أمرٌ جيد، فأن تأتيَ متأخراً خيرٌ من ألا تأتي أبداً".
ولا يرى مغنية أن المرحلة المقبلة ستختلف عن تلك السابقة، لا بل يبدو أن الأمور متجهة إلى الأسوأ في ظل غياب الخطط التي ترضي جميع الأطراف، ولا سيما المودعين، إذ إنه بعد 3 سنوات على الأزمة، لم نرَ أي حركة جدية من قبل الدولة في إطار الحل، لا بل إن خطة الدولة الأساس هي بعدم وجود خطة، وذلك على قاعدة أن المودعين يسحبون ودائعهم على هيركات (قضم) يزيد عن 70%، لحاجتهم الماسّة إليها في ظل الغلاء الفاحش وضرورات الحياة، وبالتالي يتحمّل المودع بذلك الخسائر وحده.