أثار تخفيض وكالة "موديز" للتصنيفات الائتمانية العالمية نظرتها المستقبلة لمصر من "مستقرة" إلى "سلبية" حالة ارتباك في الأسواق وبين المستثمرين، الذين يأملون حسماً عاجلاً للأزمات التي يعيشها الاقتصاد، والتي تدفع إلى تدهور مخيف في قيمة الجنيه، وتصاعد المضاربة على الدولار والذهب في سوق يعاني شح العملة الصعبة، وعدم قدرة القطاعات الصناعية والإنتاجية على البقاء، في ظل تعدد أسواق سعر الصرف وارتفاع الفائدة والتضخم، وزيادة معدلات الفساد الإداري.
خفضت "موديز" نظرتها المستقبلية لتصنيف الإصدارات الحكومية المصرية مستوى "Caa1"، وهو ما يعكس "المخاطر المتزايدة المتمثلة في استمرار ضعف وضع مصر الائتماني وسط صعوبة إعادة التوازن للاقتصاد الكلي وسعر الصرف"، وفق ما أوضحته الوكالة في بيانها الصادر يوم الخميس الماضي.
وتصنيف "Caa1" للإصدارات الحكومية المصرية هو نفسه الذي قيّمت الوكالة العالمية تصنيف لبنان به في عام 2019، وفي الشهر الأول أيضاً من ذلك العام، في مفارقة لافتة مع تصنيف مصر في 2024.
وتزامن خفض التصنيف مع تقارير سلبية عن الأداء الاقتصادي المصري، أججت من المضاربات في سوق الصرف، حيث تراجع سعر الجنيه في السوق الموازية بشكل حاد تخطى خلاله الدولار 61 جنيهاً، بينما ظل ثابتاً في البنوك عند مستوى أقل من 31 جنيهاً.
وزادت حدة هبوط العملة المصرية في سوق العقود الآجلة إلى مستويات 66 جنيهاً للدولار، وتدافع المواطنون على اقتناء سبائك الذهب، رغم تخطي الغرام عيار 24 سعر 4020 جنيهاً، وعيار 21 الأكثر انتشاراً 3570 جنيهاً، والجنيه الذهب نحو 28560 جنيهاً والأونصة (الأوقية) 126.88 ألف جنيه.
أكدت وكالة موديز عدم قدرة الاقتصاد المصري على تحمل الديون في ظل تراجع الدعم الخارجي والإجراءات السياسية التي تحول دون إعادة هيكلة الديون. وأشارت إلى زيادة كبيرة في مدفوعات الفائدة على الديون، تستهلك ثلثي الإيرادات في ميزانية العام الجاري 2023/ 2024 التي تنقضي بنهاية يونيو/ حزيران المقبل.
وأشارت إلى أن اتساع الفجوة بين سعري الصرف الرسمي والسوق الموازية ساهم في تعقيد عملية التكيف في الاقتصاد الكلي، في وقت تزيد الحرب الإسرائيلية على غزة المخاطر على ميزان المدفوعات، وتؤثر سلباً على مصادر إيرادات الدخل المولدة من السيولة الأجنبية.
تشير موديز إلى عدم تحسن صافي مركز الالتزامات الأجنبية للنظام النقدي لدى البنك المركزي والبنوك التجارية، مع وجود طلبات متراكمة بالنقد الأجنبي، وثبات احتياطي النقد الأجنبي عند أقل من 27 مليار دولار بنهاية 2023.
جاء التقرير بعد أسابيع من تخفيض وكالة "فيتش" الدرجة الائتمانية للدولة من "BB" إلى "B-" في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، بينما تزايد حجم الدين الخارجي إلى نحو 165 مليار دولار بنهاية سبتمبر/ أيلول الماضي، مع حاجة البلاد إلى سداد نحو 24 مليار من الديون قيمة أقساط وفوائد الديون الأجنبية، عام 2024، مع التزامات بنحو 6 تريليونات جنيه قيمة الديون المحلية، بينما تتراجع مصادر الدخل وترتفع الأعباء المالية على الموازنة العامة، مع توجه الحكومة إلى رفع مخصصات الدعم للسلع والخدمات الرئيسية، لمساعدة الفقراء على مواجهة الموجات العالية من التضخم الذي بلغ نحو 33% رسمياً في 2023.
ويبدو المشهد قاتماً مع تأثر إيرادات الدولة من العملة الصعبة بتراجع محركاتها الرئيسية من رسوم مرور وأعداد السفن في قناة السويس بنسبة 40% منذ حلول يناير/ كانون الثاني الجاري، بالتزامن مع تراجع لافت في تحويلات المصريين في الخارج، وتراجع حركة السياحة الدولية، بالتوازي مع انخفاض قيمة الصادرات البترولية والسلعية.
جاء تصنيف "موديز" بعد أيام قليلة من استبعاد مؤسسة "جيه بي مورغان" السندات المصرية من سوق الأسواق الناشئة، وهي أكبر مدير محافظة للأوراق المالية بالأسواق الدولية، الذي يضمن للدولة أعلى عائد على السندات مع أقل نسبة من المخاطر.
يقول خبير التمويل والاستثمار المصري لـ"العربي الجديد" وائل النحاس إن تعجيل "موديز" بإصدار تقريرها بعد 3 أشهر من تحذيرها بشأن إمكانية تخفيض نظرتها إلى مصر، والذي أعلنته نهاية سبتمبر/ أيلول 2023، والذي يجدد عادة ما بين 12 إلى 16 شهراً، يعكس مخاوفها من الوضع الاقتصادي في الدولة، وتوجيه رسائل تحذيريه للمستثمرين من الدخول في سوق السندات المصرية.
يضيف النحاس أن تصنيف موديز تأثر بالتقرير الذي أصدرته مؤسسة "جيه بي مورغان" الأسبوع الماضي، مع وجود رغبة لدى شركات التصنيف الكبرى في إخلاء مسؤوليتها عن أي مخاطر تقع لعملائها من الشركات والدول والأفراد، المتعاملة مع مصر.
ويرى أن حالة الضبابية التي تدير الحكومة بها المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وتعاملاتها في مواجهة ارتفاع الدولار والمضاربة على الذهب أثار حالة من القلق بين المستثمرين ولدى شركات التصنيف الكبرى، في ظل تصريحات حكومية تبين أن المفاوضات مع صندوق النقد "عالقة" دون أن تبين ما يدور حول هذه المفاوضات، وإمكانية حصول الدولة على ضمانات من الصندوق، والدول الداعمة للبرنامج الاقتصادي المتفق عليها في ديسمبر/ كانون الأول 2022، أو حلّ أزمة مستحقات الدول والجهات التي تنتظر استرداد مستحقاتها بالعملة الصعبة.
يحذر النحاس من خطورة خروج السندات المصرية من أسواق الدين، التي ستصبح مغلقة أمام الإصدارات المصرية، وتؤدي إلى ارتفاع تكاليف الدين والمخاطر الاقتصادية، مبيناً أن حالة الركود منتشرة في القطاع الصناعي منذ 37 شهراً وانتقلت إلى القطاع التجارية والعقارية التي تشهد عرضاً بلا طلب في ظل تراجع قيمة العملة وارتفاع معدلات التضخم، ورغبة من لديه سيولة في الاحتفاظ بها للحصول على عائد ضخم أو التكالب على اقتناء الدولار والذهب والسلع المهمة.
يرى محللون أن خروج مصر من مؤشرات التصنيف يعني أن الدولة أصبحت غير مؤهلة للاستثمار المباشر، حيث ينظر المستثمرون إلى مستوى الاستثمار الذي يبدأ من مستوى "AAA" إلى مستوى "BBB"، وعندما تخرج الدولة من مستوى B، تتحول من فئة الاستثمار المباشر إلى الاستثمار المضارب، بما ينبه المستثمرين إلى الابتعاد عن الاستثمار المباشر في السوق المصرية، ويدفع الدولة إلى رفع الفائدة إلى معدلات عالية أو منح مشتري السندات خصماً هائلاً على السندات من قيمتها الاسمية وفائدة عالية تعوض المضاربين على المخاطر بشراء السندات.
يحمل المحللون الحكومة مسؤولية الأزمة عندما عطلت تحويل المستثمرين مستحقاتهم بالدولار إلى الخارج وتأخرها في الوفاء بالتزامات مرتبطة بالتجارة الدولية والاستثمارات وقصر استخدام أرصدة الدولار الموجود في مصر على سداد الديون وأدوات خدمة الدين الحكومي، دون الالتزام بسداد قيمة الارتباطات الأخرى للمستثمرين، والذي يعتبر عدم الوفاء بها أخطر على الاقتصاد.
وفي السياق، يشير النحاس إلى أن خفض التصنيف الائتماني، مع عدم وجود ردود فعل جيدة من الحكومة لإصلاح الأمر، يدفع مؤسسات التمويل الدولية إلى فقدان الثقة في المسؤولين والاقتصاد المصري برمته.
ويشير إلى أن الاقتصاد غير قادر حالياً على الوفاء باحتياجات البلاد من الدولار وستظل الفجوة الدولارية قائمة، والتي يجب أن تعتمد على مصادر دخل حقيقية وليس الاعتماد على بيع الأصول التي ستنتهي في يوم ما إذا ما تحركت الحكومة بنفس الطريقة التي تتعامل بها حالياً في مواجهة أزمة الدولار، وهي بيع الأصول العامة للأجانب واللجوء للاقتراض لسداد العجز في الموازنة أو دفع مستحقات المستثمرين.
بدوره، قال حسن الصادي أستاذ المالية والتمويل في جامعة القاهرة، في تصريحات صحافية، إن "الحكومة أخطأت بالتوسع في عملية الاقتراض كأننا دولة عظمى ولدينا القدرة على الوفاء بالدين والتزامات هذه الديون، في حين أن الدولة غير قادرة على تدبير سداد الدين المحلي أو شراء الدولار من السوق المحلية للوفاء بسداد ديونها المتراكمة للجهات الدولية".
يشير الصادي إلى أن الناتج المحلي سيقل في الموازنة الجديدة عن 2.124 تريليون جنيه في العام المالي 2024/ 2025 المقبل، بينما تقدّر التزاماته بنحو 2.479 تريليون جنيه، عدا تكاليف خدمة الدين الخارجي، لافتاً إلى أن الديون الحكومية ستدفع إلى زيادة الفائدة على الجنيه إلى معدلات أعلى من السائدة حالياً عند 27%، وتدخل البلاد في ديمومة القروض مقابل سداد القروض.
وطالب باتخاذ إجراءات فاعلة لمواجهة الأزمة المالية، محذراً من أن "الإفلاس في الفكر سيؤدي إلى إفلاس في الدولة"، فتمويل الدين باللجوء إلى ديون يؤدي إلى استدامة الاستدانة، من أجل دفع الديون، دون توجيه تلك الاستثمارات إلى مشروعات قادرة على توليد دخل يدفع التزامات الديون، مشيراً إلى أن التعويم ليس حلاً في اقتصاد مصاب بتصلب الشرايين، لأن مرونة سعر الصرف تتطلب اقتصاداً أكثر مرونة، لن ينفع معه تعديل سعر الصرف يومياً، في ظل وجود فجوة دولارية واسعة ومستمرة.