مع مواصلة أسعار الغاز الطبيعي في السوق الأوروبية تحطيمها أرقاما قياسية، واستقرارها عند مستوى يفوق الألف دولار لكل ألف متر مكعب، تراهن روسيا على زيادة عوائدها في السنة الحالية مع بقاء تساؤلات حول مدى واقعية صمود هذه الأسعار المرتفعة على المدى البعيد.
ودفع تعافي الطلب على الغاز بعد تجاوز تداعيات جائحة فيروس كورونا وضرورة ملء مستودعات الغاز إلى زيادة إنتاج عملاق الغاز الروسي "غازبروم" بنسبة 17% إلى 378 مليار متر مكعب خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي، وفق بيانات إحصائية أوردتها وكالة "إنترفاكس" الروسية.
وبحسب توقعات سابقة صادرة عن "غازبروم" فإن إنتاجها في السنة الحالية قد يتجاوز 510 مليارات متر مكعب، وهو أعلى مستوى خلال آخر عشر سنوات. وفي هذا الإطار، يتوقع نائب مدير صندوق أمن الطاقة الوطني في موسكو، أليكسي غريفاتش، أن تحقق "غازبروم" في السنة الحالية أرباحا تزيد بنحو الضعف مقارنة مع العام الماضي، محذرا في الوقت نفسه من أن تشكل الأسعار المبالغ فيها ضربة لمصدري الغاز على المدى الطويل.
ويقول غريفاتش لـ"العربي الجديد": "طوال شهر سبتمبر/أيلول الماضي، واصلت أسعار الغاز توجهها نحو حاجز الألف دولار لكل ألف متر مكعب، ويبدو أن ذلك أصبح حالة نظامية للسوق في أوروبا التي باتت تتسم بانسحاب إمدادات الغاز الطبيعي المسال ونقص الإنتاج وقلة الاحتياطات بالمستودعات عشية بدء موسم التدفئة والغموض حول تشغيل مشروع السيل الشمالي-2 لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا مباشرة".
وحول تقديراته للعوائد الإضافية التي قد تجنيها روسيا جراء هذا الوضع، يضيف: "من المؤكد أن روسيا تجني عوائد إضافية عن تصدير الغاز بالأسعار الحالية، ولكن أسعار العقود الآجلة قد تكون أكثر تواضعا وجاذبية للمستوردين مقارنة مع الأسعار الفورية للمستهلكين في أوروبا. إلا أن زيادة العوائد مقارنة مع العام الماضي ستكون هامة للغاية ولن تقل عن الضعف، وهذه الزيادة طبيعية".
ومع ذلك، يحذر غريفاتش من المخاطر طويلة الأجل المتعلقة بفقاعة أسعار الغاز، قائلا: "تؤثر الأسعار المبالغ فيها سلباً على الطلب ولا تلبي المصالح طويلة الأجل للمصدّرين".
من جهته، رأى المحلل في شؤون الغاز في مدرسة "سكولكوفو" للإدارة في موسكو، سيرغي كابيتونوف، أنه "في حال حافظ الأوروبيون على ربط أسعار الغاز بالنفط، لكانوا يدفعون حاليا 300 دولار وحتى أقل مقابل كل ألف متر مكعب، ولكن هذا هو ثمن تحرير السوق الذي يجعل صدمات الأسعار أمراً ممكنا، والدفعات الزائدة في السنة الحالية تحقق توازنا جزئيا مع ترشيد النفقات في العام الماضي، عندما كانت أسعار الغاز بالمجمعات تنخفض إلى مستوى أسعار السوق الداخلية في روسيا".
وفي مقال بعنوان "الغاز مقابل ألف دولار. ماذا تعني أزمة الغاز الأوروبية لروسيا؟" نشر بموقع مركز "كارنيغي" في موسكو، لفت كابيتونوف إلى أن ارتفاع أسعار الغاز في أوروبا أدى إلى بدء تعطل عمل مصانع الأسمدة والصلب بسبب الأعباء المفرطة.
واعتبر أن "الارتفاع الحالي لأسعار الغاز لا يخلو من عوامل ظرفية مثل الطلب المتنامي في الصين، وفراغ مستودعات الغاز في أوروبا، والجفاف في البرازيل الذي عطل عمل المحطات الكهرومائية وأدى إلى استبدالها بالتوليد بالغاز".
وأرجع المحلل الروسي في شؤون الطاقة السبب الرئيسي للاضطرابات الحالية بسوق الغاز إلى وضع الأوروبيين على مدى الـ15 سنة الماضية نموذجا لتحديد الأسعار يضمن انخفاض الأسعار عند تدني الطلب على الغاز مثلما كان الأمر عليه في العام الماضي بسبب جائحة كورونا، ولكن "المصيبة" تكمن في أن النموذج ذاته يؤدي إلى القفزة في الأسعار عند ارتفاع الطلب.
مع ذلك، اعتبر أن سرعة استقرار سوق الغاز في أوروبا لن تصب في مصلحة الشركات المتعثرة فحسب، وإنما أيضا "غازبروم" نفسها، محذرا من أن تقدير الأوروبيين لتكلفة أزمة الغاز في عام 2021 سيدفعهم إلى إنماء الاستثمارات في التحول في مجال الطاقة والتخلي التدريجي عن الغاز الطبيعي بشكل عام، وليس الغاز الروسي فقط.
وتزامنت موجة ارتفاع أسعار الغاز في أوروبا مع تأخر جديد في تشغيل مشروع "السيل الشمالي-2" لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا، وسط توجه واشنطن نحو فرض عقوبات جديدة على الشخصيات والأفراد المشاركين في بناء وتشغيل "السيل الشمالي-2" تحت التهديد بتجميد أصولهم الأميركية، بالإضافة إلى التوقعات بتولي "الخضر" مناصب رفيعة بالكتلة الاقتصادية بالحكومة الألمانية الجديدة بعد الانتخابات.
إلا أن تأخر "السيل الشمالي-2" لم يمنع روسيا من مواصلة العمل على الحد من اعتمادها على أوكرانيا في نقل الغاز إلى أوروبا، إذ بدأت "غازبروم" اعتباراً من الأول من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، بتصدير الغاز إلى المجر عبر خط أنابيب "السيل البلقاني" الذي يشكل امتدادا لخط أنابيب الغاز "السيل التركي"، وغيره من خطوط الغاز في جنوب شرق أوروبا.
وفي وقت سابق، كشفت "غازبروم" عن إبرام عقدين مدتهما 15 عاما مع المجر بطاقة تمريرية إجمالية 4.5 مليارات متر مكعب سنويا، مما أثار استياء أوكرانيا التي أعربت عن خيبة أملها من التعاقد، متوعدة باللجوء إلى المفوضية الأوروبية لتقييمه لناحية تناسبه مع القوانين الأوروبية في مجال الطاقة.