بعد مرور ما يقرب من عامٍ ونصف العام على ظهور وباء كوفيد–19، الذي أصاب نحو 180 مليون شخص وقتل ما يقرب من 4 ملايين منهم، بات واضحاً أن الفيروس، وإن كان يصيب الجميع، إلا أن تأثيره ليس واحداً، لا على الأفراد ولا على البلدان، وفي الوقت نفسه، كان الفيروس كاشفاً التصدعات الموجودة في المجتمع العالمي ومفاقماً إياها.
وعلى رأس تلك التصدعات ما يخص التفاوت الفج في الكثير من نواحي الحياة بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة، وأيضاً بين مواطني البلد ذاته، إذ ارتفعت دخول بعضهم خلال فترة الوباء، بينما وقف آخرون في طوابير لساعات لتسجيل أسمائهم ضمن طالبي الحصول على تعويضات البطالة.
وقفزت ثروات ما يعرف بطبقة النصف في المائة قفزات هائلة، بينما زاد عدد من يقفون ساعات أمام المدارس أو دور العبادة أملاً في الحصول على وجبة ساخنة.
وأخيراً، كان التفاوت واضحاً في معدلات الحصول على المصل المضاد للفيروس، إذ نجحت أغلب الاقتصادات الكبرى في توفير اللقاح للنسبة الكبرى من المواطنين الراغبين في الحصول عليه، بينما تراجعت معدلات توفيره في بلدانٍ أخرى، انتظاراً لوصول ما فاض عن حاجة الدول الغنية.
وفي حين غابت الإحصاءات الدقيقة عن تطورات الدخول والثروات، كما نسب الإصابة ومعدلات الحصول على اللقاح أو العلاج في بعض البلدان الفقيرة، كانت هناك بعض الأرقام التي صدرت عن بعضها الآخر لتكون صادمة في وصف حال تلك البلدان، ومنذرة بما هو أسوأ في أحوال البلدان التي لم تنشر أو لم يكن لديها إحصائيات.
وكانت البرازيل واحدة من أهم تلك الحالات التي اتسمت بقدر لا بأس به من الشفافية ودقة البيانات الصادرة، رغم ارتفاع عدد حالات الإصابة، إذ أصاب الفيروس ما يقرب من 18 مليون برازيلي، يمثلون نحو 9% من عدد سكان الدولة اللاتينية، وتجاوزت حالات الوفاة المرتبطة به نصف مليون شخص.
ومع ضعف قدرة البلاد على صرف إعانات للمواطنين المتضررين، وصلت البلاد إلى أسوأ حالاتها في خمسة عشر عاماً، بعد أن سجل التفاوت الاجتماعي والاقتصادي أعلى درجاته، وازدادت أوضاع الملايين سوءاً.
ووفقاً لدراسة أعدتها إحدى الجامعات المرموقة بالبرازيل، انخفض متوسط دخل الفرد ليصل إلى 195 دولاراً خلال الربع الأول من العام الحالي، وهو أقل مستوى له في العقد الأخير، ويمثل انخفاضاً بنسبة تتجاوز 11% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، أي قبل انتشار الفيروس في البلاد.
وأشارت الدراسة إلى أن الفئات الأفقر كانت الأكثر تأثراً بانخفاض متوسط الدخل العام، إذ خسر الأربعون في المائة الأكثر فقراً أكثر من 20% من دخولهم خلال العام الأخير.
ونتيجة لتراجع متوسط دخل الفرد، تراجع مؤشر جيني في البلاد، وهو مؤشر عالمي يقيس التفاوت في الدخول بين أبناء الوطن الواحد، ليسجل 0.674 خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام، وهو أعلى مستوى له في البرازيل منذ عام 2012. ويتراوح المؤشر في كل بلدان العالم بين صفر وواحد، وكلما اقترب من واحد كان ذلك يعني ارتفاعاً في مؤشر التفاوت.
أيضاً، أشارت بيانات حديثة إلى أن متوسط الشعور بالسعادة بين البرازيليين سجل 6.1 على مؤشر يتراوح بين صفر وعشرة خلال العام الأخير، منخفضاً أربعة أعشار النقطة، ومسجلاً أقل مستوى له منذ عام 2006.
وأكدت الأرقام أن الأربعين في المائة الأكثر فقراً من الشعب انخفض شعورها بالسعادة على المؤشر ضعف متوسط الانخفاض العام، بينما ارتفع شعور العشرين في المائة الأكثر غنى بالسعادة خلال الفترة ذاتها.
وبخلاف ارتفاع مقاييس التفاوت في الدخول، لم ينخفض شعور مواطني بلد السامبا، المحبين للرقص والضحك والحياة، بالسعادة فقط، وإنما ارتفع أيضاً شعورهم بالغضب، من 19% في عام 2019، إلى 24% في عام الجائحة، في إشارة إلى أن المقاييس الموضوعية والذاتية للرفاهية الاجتماعية تسير سوية، إلى حد كبير، في أغلب الأوقات.
وجاءت الأرقام الواضحة من البرازيل من جامعة مستقلة، خارج الفلك الحكومي، لتعطي صورة واضحة عن التأثيرات الاجتماعية للجائحة، وما تسببت فيه من ركود اقتصادي، على المواطنين.
ولكن في الكثير من الدول العربية، تختفي تلك الأرقام بسبب عدم رغبة الحكومات في "إزعاج" المواطنين بأرقامٍ تقض مضاجعهم، ولن يكون لهم الحق في مناقشتها، بينما تُتهم أي جهة مستقلة تُصدر إحصائيات كهذه بالعمالة للخارج، وربما "مساعدة جماعات إرهابية" في تحقيق أهدافها بقلب نظام الحكم.
ولم تكن البرازيل حالة فردية، فقد ثبت، ولأول مرة منذ التسعينيات، تقلص حجم الطبقة المتوسطة حول العالم، وفقاً لتقديرات مركز الأبحاث PEW، الذي أكد أن ما يقرب من 150 مليون شخص، وهو رقم يساوي مجموع سكان المملكة المتحدة وألمانيا، انتقلوا من الطبقة الوسطى إلى الطبقة الأفقر خلال العام الماضي، منهم 10 ملايين تقريباً في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وحدد المركز من يصنّفهم ضمن الطبقة الوسطى بأنهم من يحصلون على أجر يومي يتراوح بين 10– 20 دولاراً.
وفي مصر، وقبل عام الجائحة، "نجحت الضغوط الشعبية" في فرض حدٍ أدنى للأجر الشهري يقدر بألفي جنيه مصري، تعادل 127 دولاراً تقريباً، وتتحايل أغلب الشركات لتجنب دفعها عن طريق تشغيل العمالة من دون عقود، أو بطرق أخرى.
وخلال عام الجائحة، لم يستفد من الإعانات الحكومية الموجهة لمن توقفت أعمالهم سوى 10% فقط من العدد المقدر للعمالة غير الرسمية، ولم تتجاوز الإعانات 500 جنيه شهرياً، أو أقل من 32 دولاراً.
وبينما كان المسؤولون في السابق يرجعون أسباب تدني مستوى الدخل في مصر لانخفاض تكلفة المعيشة فيها بسبب الدعم الحكومي، لم يعد ذلك ممكناً الآن بعد أن حُررت أسعار الوقود والغاز والكهرباء والخبز والمياه، ولم يبق خارج الأسعار العالمية سوى المواطن المصري. فهل يجد هذا المواطن من يقيس سعادته أو شقاءه بأي مقياس؟