تعيش الصحف الورقية فترة عصيبة منذ سنوات، في أنحاء العالم، وهي أزمة ليست خافية على أحد. فموت صحيفة ليس بالأمر الهين، إذ غالباً ما يتبعه مشهد مهيب، يشارك فيه مشيعون من قرائها والمهتمين بمهنة الصحافة والمثقفين عامة.
وفي العالم العربي الذي ألف موت صحف عريقة، كما في لبنان (مثل: السفير والمستقبل والأنوار)، لم تمرّ وفاة هذه الصحف على نخبته مرور الكرام، بل اتسمت مقالات السياسيين والإعلاميين من أنحاء الدول العربية، بحالة من الحزن على رحيل صحف كانت من أدوات القوى الناعمة اللبنانية ورمزاً لصناعة تعد مفخرة وطنية تميز بها لبنان عن غيره من الدول العربية.
وأثار إغلاق صحيفة "العرب" الأردنية عام 2015 صدمة لدى أهل المهنة بعدما فشلت في تدبير موارد مالية تحافظ على بقائها، بينما قرع جرس إنذار لجريدة "الدستور" التي تعثرت مالياً ومنافسيها في هذه الفترة.
وفي التوقيت نفسه، انتفضت نقابة الصحافيين المصرية ضد ملاّك صحيفة "التحرير"، الذين قرروا إغلاق الجريدة وتسريح الصحافيين وجميع العاملين فيها، لأسباب مالية. طلبت النقابة من الحكومة المصرية إشهار إفلاس المالك أكرم قرطام، وهو رجل أعمال ورئيس حزب المحافظين.
ورغم فشل النقابة في معاقبة السياسي قرطام، ربيب السلطة، أو إنقاذ حياة الصحيفة من موت محقق، فقد أوقفت سقوط صحيفتين في موت وشيك، وهما "المصري اليوم" و"الشروق"، إذ أحال صاحب الأولى عشرات الصحافيين إلى طابور العاطلين قسرياً، وبدأ بتصفية المشروع تدريجياً، بينما امتثل المالك الثاني لرجاء النقابة بأن يبقي على حياة جريدته في غرفة الإنعاش مقابل تخفيض أجور الصحافيين وتكاليف التشغيل، إلى درجة مجحفة لحقوق العاملين.
وسط ضباب حالك لصناعة الإعلام في مصر، فوجئ الوسط الصحافي بصدور قرار من الهيئة الوطنية للصحافة، يوم 4 يوليو/ تموز 2021، بوقف الطباعة الورقية للصحف المسائية، وهي "المساء" التابعة لدار التحرير، و"المسائية" التابعة لأخبار اليوم، و"الأهرام المسائي" التابعة لمؤسسة الأهرام.
ساد الصمت على غير العادة المشهد في نقابة الصحافيين، التي كانت تتصدى من قبل لأيّ إجراءات تمس صناعة الصحف وحقوق العاملين فيها، والأكثر غرابة أنّ المسؤولين عن تلك الصحف سكتوا تماماً، وكأنّ الأمر لا يعنيهم في شيء، وهي نفسها الحالة التي أصابتهم عندما اتخذت قرارات بمنع صحف أخرى من الصدور، مثل "الرأي"، وتحويل كثير من المجلات الأسبوعية والشهرية إلى نسخ إلكترونية فقط.
كان يمكن أن يتعلل المسؤولون بأنّ "موت صحيفة" من هذه الصحف جاء لأسباب اقتصادية، خصوصاً أنّ أزمة الصحافة الورقية هي قضية مزمنة بدأت منذ بداية القرن الحالي. فالصحف الحكومية تحديداً تحقق خسائر مالية ضخمة منذ عام 2004، بسبب ارتفاع كلفة التشغيل والفساد الإداري والمالي، والمحسوبية وانهيار توزيعها مع انتشار الفضائيات وتخلفها عن مواكبة التطور التكنولوجي، وانحسار الإعلانات التي توجهت إلى الفضائيات ومواقع الإنترنت.
الصحف الحكومية تحديداً تحقق خسائر مالية ضخمة منذ عام 2004، بسبب ارتفاع كلفة التشغيل والفساد الإداري والمالي، والمحسوبية وانهيار توزيعها
وفي ذلك الوقت، شكل مجلس الشورى الذي يدير شؤون الإعلام المصري، لجاناً فنية، طالبت بحلّ عاجل للمشكلة، حتى لا تدخل الصحافة في أزمة مالية مزمنة. انقسمت الحكومة إلى فريقين، أحدهما قاده وزير المالية الأسبق يوسف بطرس، الذي طلب دمج المؤسسات وبيع بعض أصولها للإبقاء على بعض الإصدارات المهمة للدولة، وتحويلها لمشروعات مربحة، بينما انحاز المجلس الذي كان يديره أمين الحزب الوطني المنحل صفوت الشريف، إلى رأي يقول إنّ "الإعلام أمن قومي، يجب دعمه مثلما يدعم البرلمان الجيش".
ووفقاً لهذه الرؤية، ظلت الحكومة تدفع فواتير خسائر جهازها الإعلامي من ميزانية الدولة، وعلى رأسه الإذاعة والتلفزيون، وتمنح القائمين عليه حق سحب ما يريدونه من أموال من البنوك لضمان استمرار التشغيل.
قامت ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، فاكتشف المسؤولون أنّ الإعلام الرسمي ليست له قيمة وسط المجتمع الثوري الجديد، ففي الوقت الذي انخفضت فيه معدلات التوزيع لأعرق الجرائد المصرية، مثل "الأهرام" و"الأخبار" و"الجمهورية" وغيرها، لعدم انحيازها للثورة في أيامها الأولى، صعدت جرائد أخرى إلى قمة التوزيع، مثل "المصري اليوم" و"الشروق"، وعادت جريدة "الوفد" الصادرة عن حزب الوفد للتألق، بعد تفاعلها مع الثورة والثائرين.
أقبل الناس على شراء الجرائد الورقية لدرجة أنّ الصحف وضعت حداً أعلى للطباعة يومياً، حتى تواكب الكلفة الحادّة للمنتج، بسبب ارتفاع أسعار الورق ومستلزمات الطباعة والتشغيل، في الوقت الذي كانت تهدر فيه المطبوعات الحكومية ملايين الجنيهات يومياً على مطبوعات تعود 50% من أعدادها يومياً للمخازن.
ولم تفلح التحولات التي شهدتها الصحف الحكومية التي حاولت مواكبة أحدات الثورة وما بعدها، في جذب الجمهور لأنّها كانت تتأرجح بين اتجاهين سياسيين متناقضين، كشفت عنهما الأحداث التالية لعامي 2012 و2013.
خسرت تلك الصحف جمهورها التقليدي ومكانتها في حقبة جديدة شغلتها صحف الثورة والصحافة الإلكترونية ووسائل التواصل والقنوات الفضائية متعددة الاتجاهات.
أصبح الإعلام المصري تحت التأميم الفعلي، كما حدث مع قنوات "الحياة" و"المحور" و"الناس"، وعملياً لا يمكن طباعة جريدة من دون المرور على لجنة الرقابة الأمنية
لم تتوقف الحكومة عن دعم صحفها، رغم نزيف الخسائر المستمرة، وتغير النظام السياسي عدة مرات، بل شارك النظام الحالي في فتح خزائن الدولة والبنوك للمؤسسات الإعلامية، حتى تمكن من صناعة إمبراطوريته الإعلامية الخاصة التي بدأت إصداراتها بأسماء رجال أعمال مثل أحمد أبو هشيمة، ومحمد الأمين، وغيرهما، لنفاجأ بأنّنا أمام شركتين تابعتين للجهاز الأمني السيادي، لا تتحكمان فقط في ما تملكانه من قنوات فضائية وصحف حديثة وقديمة ومواقع إلكترونية ومجموعات وسائل تواصل فحسب، بل تديران المشهد الإعلامي برمته، سواء الصحف الحكومية أو الحزبية أو التابعة لرجال الأعمال.
أصبح الإعلام المصري تحت التأميم الفعلي، كما حدث مع قنوات "الحياة" و"المحور" و"الناس"، وعملياً لا يمكن طباعة جريدة مصرية من دون المرور على لجنة الرقابة الأمنية التي تولت أيضاً حلّ المشاكل المالية التي تواجه هذه الصحف. فأصبحت طباعة جرائد مهمة للنظام من شؤون الأمن القومي، بغض النظر عن قيمتها للجمهور، مثل "الأهالي" و"الوفد" و"الأهرام" و"الأخبار" و"الجمهورية" و"الوطن" و"اليوم السابع" وغيرها.
فهذه الصحف التي تُصنع على عين النظام يضمن لها النظام حلّ أزماتها المالية شهرياً، ويكفي أنّ الحكومة تأمر بنشر ملاحق إعلانية تُكتب على هيئة مواد إعلامية من الوزارات والبنوك والجهات الرسمية، وتعتبر المنحة اليومية من وزارة المالية لنشر إعلانات في هذه الصحف، مقابل إسقاط ديونها للضرائب، خير شاهد على رغبة النظام في إنقاذ هذه الإصدارات من موت إكلينيكي.
تجاهل النقابة وكبار الكتاب مشهد إغلاق الصحف الورقية دفع الشباب للتساؤل: لماذا ألغت الحكومة طبع جريدة "المساء"، التي أنشأها جمال عبد الناصر، مؤسس النظام العسكري الحاكم، عام 1954، بعد تأميمه صحفاً حزبية وعامة كبرى، مثل "المصري" و"البلاغ" التابعة لحزب الوفد، وغيرها المملوكة للإخوان المسلمين، مثل "الدعوة" و"الاعتصام"؟ فإذا كان وقف طبع "المسائية" و"الأهرام المسائي" لاعتبارهما أقل شهرة وتوزيعاً من "المساء"، فهناك ما هو أسوأ حالاً من الجرائد الصباحية التي تحرص الحكومة على استمرار طباعتها.
فالجميع يعلم أنّ الصحافة المصرية تمرّ بأزمة مالية منذ نحو عقدين، مع إمكانية مواجهتها بمزيد من الحريات المهنية والتطور التكنولوجي، إذ رصدت الحكومة نحو 4.3 مليارات دولار لقطاع الإعلام سنوياً، بينما يعيش الآن أسوأ أزماته، فقد انخفض الدعم السنوي للقطاع إلى 1200 مليون جنيه توجَّه للرواتب، وتحولت الصحف منذ 7 سنوات من مشروع مهني اقتصادي إلى آلة دعائية، تكاد تتشابه جميعها في العناوين والمضمون والشكل العام.
لا فرق بين صحيفة وأخرى إلّا في الاسم التجاري ومكان الطبع، وبينما يضن النظام على بعضها بالمال ينفق ببذخ على قنوات ومواقع جديدة، ويجازف بمئات الملايين في مشروعات فاشلة، مثلما حدث في بوابة مصر "إيجي جيت"، التي أنشأها منذ 3 أعوام وأغلقت في شهر مارس/ آذار الماضي، بعدما كانت مشروعاً رسمياً لرئاسة الجمهورية، شاركت في دعمه كلّ الوزارات والمحافظات.
لم يكن توقف طبع هذه الجرائد إلّا بداية انهيار قمة جبل الثلج، خصوصاً أنّ العاملين فيها جاهزون للتحولات التكنولوجية بينما جمهورها من البسطاء البعيدين عن الحداثة، وأنّ العقلية الحاكمة لإدارة الإعلام، في أغلبها، فشلت في تطوير المؤسسات التي أدارتها من قبل، وتبوأت مراكزها متحصنة بالدعم الأمني، بما يُمكنها من توزيع المناصب والأموال وأعمدة المقالات على مؤيديها دون غيرهم.
بل لم يتورع المسؤولون عن بيع أملاك المؤسسات أو تأجير مقار عريقة منها لتصبح محال تجارية لسداد مرتبات العاملين، مع ذلك يرددون منذ سيطرتهم على مقاليد المهنة أنّ لديهم حلولاً لإنقاذ المؤسسات، وهم يعلمون أنّ الإعلام المصري فقد ريادته بعدما ضاعت حريته وفقد المهنية والرؤية الحاكمة للمهنة، وحُرم الصحافيون من حرية التعبير عن الناس والالتقاء بهم من دون تصريحات أمنية في كلّ تحرك لهم بالشوارع والمؤسسات. إنّ موت صحيفة يعكس أنّ هناك حاجات كثيرة مهمة في حياة الناس في طريقها للموت القسري.