استمع إلى الملخص
- تتباين الآراء حول تأثير هذه الهجرة على الاقتصاد البريطاني، حيث يشكك بعض الخبراء في دقة الأرقام، ويشيرون إلى أن الأثرياء البريطانيين قد يبقون بسبب الروابط العائلية واللغوية.
- رغم الضغوط الاقتصادية، يظل حي المال في لندن جاذبًا، لكن بريطانيا تواجه تحديات في الحفاظ على جاذبيتها كمركز عالمي للثروات.
على مدى الأشهر القليلة الماضية، صدرت عدة تقارير تحذر مما سمته "موسم هجرة المليونيرات" من بريطانيا. تتباين الأسباب التي توردها التقارير لهجرة الأثرياء، لكنها تتفق على النتائج متمثلة في نزيف الثروات وعائدات الضرائب التي ستفقدها الخزانة البريطانية من جراء ذلك، الأمر الذي يشير، حسب التقارير، إلى أن لندن بدأت تفقد حظوتها بما هي مركز عالمي جذاب في مواجهة مراكز مالية أخرى باتت تستقطب أصحاب الثروات. في المقابل تشكك جهات كثيرة ودراسات أكاديمية في مصداقية التقارير وحتى فيما يمكن أن تسببه من أضرار اقتصادية لو صدقت.
ولعل تقرير بنك UBS السويسري للاستثمارات، عن تغيرات الثروة في العالم يحمل كثيرا من التشاؤم لوضع بريطانيا وحي "السيتي"، حي المال والأعمال، الذي ظل تاريخيا ملاذا لأصحاب الثروات من شتى بقاع العالم، وحسب التقرير فإن بريطانيا ستخسر 500 ألف مليونير حتى عام 2028، أي ما يعادل حوالي 20% من المليونيرات البريطانيين أو الذين يتخذون من الأراضي البريطانية مقرا لهم ولأعمالهم دون أن يكونوا مواطنين بريطانيين بالضرورة.
ويعلق بول دونوفان، كبير الاقتصاديين في وحدة UBS لإدارة الثروات في بيان على هذا النزوح، الذي لا يزال مُحتملا، بأن "بريطانيا لديها عدد أكبر من المليونيرات أكثر مما تستحق"، وأن هذا النزوح هو جزء من حراك الثروة وتحركها عالميا، إضافة إلى سعي المستثمرين غير البريطانيين إلى الانتقال إلى مراكز أخرى حيث معدلات الضرائب أقل. وحسب "يو بي إس" فإن بريطانيا هي البلد الثالث عالميا من حيث المليونيرات، بعد الولايات المتحدة والصين، وبها 3 ملايين مليونير.
أما الدراسة التي أصدرتها Henley & Partners للأبحاث فجاءت أكثر واقعية لأنها اقتصرت على فترة زمنية محددة وأشارت إلى أن أكثر من 9 آلاف مليونير سيغادرون بريطانيا هذا العام بحثا عن ملاذات أكثر ربحية وأقل ضرائبيا لأصولهم. ويقول أندرو إيمويل، رئيس قسم الأبحاث في مؤسسة "ثروات العالم الجديد" ومقرها جوهانسبورغ، والتي أجرت البحث بالاشتراك مع "هينلي" : "بريطانيا تضم في الوقت الراهن 602 ألف مليونير والرقم الذي أورده البحث يعد معقولا جدا أو أقل من المتوقع". ويعتمد البحث في تعريف المليونير على المعيار الدولاري أي ما يعادل 750 ألف جنيه إسترليني حصص شركات أو أموالا منقولة، لكنه لا يشمل الشركات أو صندوق المعاشات الخاصة بالمواطنين البريطانيين.
مليونيرات مقيمون في بريطانيا
يمثل المقيمون الأجانب في بريطانيا النسبة الأكبر من المليونيرات المرشحين للنزوح حسب التقريرين ودراسات أخرى، بسبب التغيرات التي اقترحتها حكومة المحافظين في عامها الأخير أو التي تعهدت بها حكومة العمال، على الامتيازات الضريبية التي تتمتع بها فئة الـ "non-domiciled" أي المقيمين الأجانب الذين يتخذون من بريطانيا مقرا، بينما موطنهم الدائم وجنسيتهم في بلدان أخرى.
وسجلت المطالبات بإعادة النظر في الامتيازات الضريبية لهذه الفئة مطلبا سياسيا شعبيا على مدى عقود. في الوقت الراهن، تمنح هذه الامتيازات المقيمين الأجانب إعفاء ضريبيا على الدخول والأرباح والأصول التي يحققونها خارج بريطانيا، طالما ظلت خارج النظام المالي البريطاني، مقابل مبلغ ثابت يدفع للخزانة البريطانية يتراوح بين ثلاثين ألف و60 ألف جنيه إسترليني سنويا حسب مدة الإقامة. كما أن ممتلكاتهم خارج بريطانيا تظل معفاة من ضرائب التركة، لكن هذه الامتيازات تظل سارية لمدة 15 عاما بعدها يتم إسقاطها ليتعين عليهم دفع ضرائب على كل دخولهم وممتلكاتهم وتركاتهم خارج بريطانيا، إذا قرروا البقاء فيها.
واقترحت حكومة سوناك في عامها الأخير الحد من مدة هذه الامتيازات الضريبية لتصبح اعتبارا من شهر إبريل/نيسان المقبل قاصرة على أربع سنوات مع منح فترة لترتيب الأوضاع لمن يريدون نقل مملكاتهم أو أصولهم إلى داخل بريطانيا. وأيدت حكومة العمال الجديدة التعديلات فيما تتوقع دوائر الأعمال مزيدا من التغييرات قد تفرضها حكومة ستارمر للحصول على مزيد من الضرائب ضمن جهودها لتأمين مصادر تمويل لبرامجها الإصلاحية عند الإعلان عن أول موازنة لها في 30 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري.
وحسب إحصاءات الحكومة البريطانية فإن أكثر من 74 ألف مقيم أجنبي اتخذوا من بريطانيا مقرا لهم في العام الماضي وقد دفعوا ضرائب للخزانة بلغت قرابة التسعة مليارات جنيه إسترليني (11.6 مليار دولار) عما يتداولونه في بريطانيا من دخول وأرباح، وهو رقم، رغم كبره، يمثل أقل من 1% من إجمالي عائد الضرائب البريطانية. لكن محللين كثيرين يقللون من تأثير التغيرات المتعلقة بنظام المقيمين الأجانب في دفع المليونيرات للرحيل، منهم هيلين ميللر رئيسة قسم الضرائب في معهد الدراسات المالية IFS الشهير، التي ترى أنه " لا يوجد دليل قاطع على خروج جماعي للأثرياء من بريطانيا، فلا توجد أرقام يمكن الركون إليها عند الحديث عن ذلكّ".
لكن حتى لو كانت الأرقام قليلة وغير موثوقة، فهي تشير إلى حدة المنافسة التي باتت تواجهها بريطانيا كمركز لجذب الثروات والأثرياء، وهو ما يفسره تقرير UBS العالمي بأنه "نتيجة طبيعية لحراك الثروة" وهو أيضا ضمن التغيرات التي يعرفها عالم اليوم من سهولة حركة المال والأعمال في ظل العولمة. وأوضح التقرير أن الأثرياء في سعيهم للدول الأكثر من حيث التسهيلات الضريبية باتوا يتوجهون إلى مراكز أكثر جذبا مثل الإمارات وتايوان وسنغافورة على الصعيد الدولي. أما على الصعيد الأوروبي فإن إيطاليا وفرنسا واليونان باتت تجتذب "المليونيرات" الراحلين عن بريطانيا بعدما نسخت نظام " المقيمين الأجانب" وأدخلت عليه تحسينات من بينها وضع حد أقصى للضرائب التي يمكن أن تدفعها هذه الفئة.
لكن خبير الضرائب البريطاني ريتشارد مورفي، مؤسس موقع "تاكس ريسيرش" يرى أن الأسباب التي تسوقها الدراسات الأخيرة غير مقنعة أو كافية. ويرى مورفي أن الأسباب التي تدفع الأثرياء للبقاء، خاصة البريطانيين منهم، أكثر من تلك التي تدفعهم للرحيل. فالأثرياء البريطانيون لديهم عائلات ممتدة ومنازل هنا على مدى أجيال، وهذه العائلات تتحدث الإنكليزية لغة أصلية، كما أن قواعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تصعب على المواطنين البريطانيين الحصول على إقامة في الدول الأوروبية، إضافة إلى أن معظم الدول الأوروبية تفرض ضرائب أعلى على الدخول الشخصية. ويشير مورفي إلى أن أعداد من يرحلون ستكون أقل بكثير مما اقترحه تقرير UBS وربما تقتصر على الأجانب المقيمين.
ويرى أرون أدفاني، أستاذ الضرائب في جامعة ووريك، في مقابلة مع "فايننشال تايمز" أن دراسة له عن "المقيمين الأجانب" بينت أن الذين قرروا المغادرة منهم بسبب ارتفاع الضرائب هم الذين تربطهم صلات اقتصادية ضئيلة بالنشاط الاقتصادي في بريطانيا "لأنهم ليس لديهم دخول كبيرة في بريطانيا ولا يدفعون بالتالي ضرائب كبيرة، ومن ثم فإن مغادرتهم قد تكلف خسارة اقتصادية أقل من بقائهم".
وأظهرت دراسة شهيرة صادرة عن "كلية لندن للاقتصاد" في عام 2020 وشملت 18 من الدول الغنية، أن الإعفاءات الضريبية التي تمنحها الحكومات للأثرياء لم تعد بفائدة تذكر على حفز الاقتصاد أو خفض معدلات البطالة. وتشير الدراسة التي قدمها ديفيد هوب من كلية لندن للاقتصاد وجوليا ليمبرغ من "كينغز كوليدج- لندن" إلى أن الإعفاءات الضريبية للأثرياء تزيد من ثرواتهم ولا تخدم العاملين أو الفئات الأدنى. ويرى هوب في مقال جديد أن النتائج التي توصلت إليها الدراسة لا تزال قائمة، فمنح الأثرياء مزيدا من الامتيازات الضريبية يأتي على حساب المجتمع "لأن الأثرياء سيساومون على مزيد من الإعفاءات لزيادة ثرواتهم بدلا من زيادتها عن طريق الإنتاج".
ومهما تباينت التقديرات، فإنها تتفق على أن البيئة الاستثمارية في بريطانيا تواجه ضغوطا متزايدة عقب الخروج من الاتحاد الأوروبي، ونتيجة للحرب في أوكرانيا وفرض عقوبات على روسيا ما أدى لهجرة "الأوليغارش الروس" من ملاذهم المفضل في لندن، إضافة إلى أزمة تكاليف المعيشة وأسعار الطاقة التي تأثرت بها بريطانيا أكثر من أي دولة أخرى. رغم ذلك يتفق المحللون على أن لندن وحي السيتي ستظل مركزا جاذبا للمال والأعمال حتى مع تراجع جاذبيته في الآونة الأخيرة.