ربما أول ما يقفز إلى ذهن أي قارئ لأرقام إعادة الإعمار في سورية، ببلاد لم تزل رحى الحرب تدور فيها، هو: كيف تم تقدير تلك الأرقام؟ قبل أن يتوقف القصف تم إحصاء حجم الهدم، وبالتالي تكاليف الإعمار!
وتتتالى بعد ذاك الأسئلة، من سيدفع تلك المليارات، وما مصير الدولة المهدمة التي ستقع تحت وطأة الديون، ولا تنتهي الأسئلة عند: ترى من سيفوز بكعكة الخراب والتعهّد بإعادة الإعمار؟
بالأمس، وخلال ندوة على هامش اجتماعات صندوق النقد والبنك الدوليين، أعيد طرح هذه "الأحجية" لنقرأ رقماً هائلاً عن إعادة إعمار أوكرانيا، والتي لم تزل احتمالات توقف الخراب والتهديم فيها شبه معدومة، بل يمكن لحرب فلاديمير بوتين على كييف أن تفجّر حرباً عالمية ثالثة، كما هدد رئيس الدبلوماسية الروسية بالأمس.
لكن المسؤولين الماليين رموا رقم 600 مليار دولار لإعادة إعمار ما دمره الغزو الروسي، كبداية لنصب الفخ، مستأنسين على الأرجح بما قاله رئيس وزراء أوكرانيا، دنيس شميهال، خلال حديثه للبنك الدولي: "إعادة بناء وتحويل أوكرانيا بالكامل للمستقبل بعد الغزو الروسي سيكلف 600 مليار دولار".
وفي تتمات الفخ وزرع الآمال ربما، ما قالته رئيسة البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير، أوديل ريناد باسو، إن هناك حديثا حول خطة إعادة تعمير لأوكرانيا شبيهة بخطة مارشال التي نفذت في أوروبا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وفيما رشح عن صندوق النقد، بعد منحه الشهر الماضي قرضاً طارئاً لأوكرانيا بقيمة 1.4 مليار دولار: "الديون السيادية لأوكرانيا ستظل معقولة، ويمكن تحملها إذا انتهت الحرب بسرعة".
من السذاجة ربما المقاربة بين أوكرانيا وسورية، لأن التعاطف الدولي والدعم الأورو- أميركي الذي لاقته كييف للتصدي للغزو الروسي لم يحلم به السوريون رغم القتل والتدمير منذ سبع سنوات، وعلى يد القاتل فلاديمير بوتين نفسه بعد أن دخلت روسيا عام 2015 بكل ثقلها وآلتها العسكرية، على ضفة دعم نظام الأسد، وشرعت بالقتل والتهديم والتهجير من غير رادع أو حسيب، إن لم نقل بضوء أخضر دولي.
بيد أنه، ومن قبيل الشيء بالشيء يذكر، على اعتبار المهدم بسورية وأوكرانيا نفسه، وبمناسبة كثرة التصريحات حول إعادة الإعمار، نسأل: ترى من هو صاحب آخر تصريح لمبلغ إعادة إعمار سورية؟ وكم يا ترى بلغت التكاليف؟
المفاجأة أن المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف، حين قدر تكلفة إعمار سورية بنحو 800 مليار دولار أميركي، خلال آخر اجتماع لممثلي حكومة الأسد والمعارضة والدول الضامنة الثلاث، روسيا وإيران وتركيا، في العاصمة الكازاخية نور سلطان، العام الماضي، ليتسابق من يهمهم الأمر من بعده حول رمي مبالغ أخرى، وصل أقصاها إلى نحو 950 مليار دولار.
نهاية القول: إن سورية وأوكرانيا، كمثالين حديثيّن ليس إلا، لن تنجوان من قيود المانحين وشروط وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين، والتي ستغير بنية وشكل الاقتصاد والمجتمع، وربما السياسة، إن لم نقل، ستبقيان كييف ودمشق، لقرون ربما، تدوران في دوامة الديون وأعبائها ورهن وبيع الثروات لتسديد أقساطها.
رغم كل ذلك، ربما السؤال حول الأثمان البشرية لحروب مفتعلة لغايات اقتصادية وسياسية، لها علاقة باستمرار الهيمنة أو إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية والاقتصادية للعالم.
بمعنى، أين مساعي كبار مهندسي إعادة الإعمار من وقف نزيف الدماء وتهجير الكفاءات والانصراف لإعادة البشر قبل اللهاث وراء السيطرة والأرباح، جراء إعادة الحجر، إن بأوكرانيا بعد قتل عشرات آلاف وتهجير ونزوح 12 مليونا، والمسلسل مستمر العرض، أو بسورية، والتي منها كما اتفق المراقبون، كانت انطلاقة تمادي النظام الروسي بأوكرانيا؟
ووفق إحصاءات مرور العام الحادي عشر على ثورة السوريين، تقول "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" إن الخسائر البشرية بلغت نحو 228 ألفًا و647 مدنيًا منذ مارس/ آذار 2011 حتى مارس 2022، بينهم 14 ألفًا و664 قضوا تحت التعذيب، فضلاً عن تهجير نصف سكان سورية إلى بلاد تضيق بهم وعليهم لدرجة القتل والابتزاز، ونزوح خمسة ملايين عن بيوتهم بالداخل، بات التحنن عليهم وتصوير جحيمهم مجال سباق وأوراق سياسية ترمى على طاولة كلما اقتضت الضرورة.