استمع إلى الملخص
- تواجه إسرائيل تحديات اقتصادية كبيرة، حيث بلغت تكاليف الحرب 95 مليار دولار، وارتفع عجز الموازنة إلى 8.1%، مع انخفاض الاستثمار الأجنبي بنسبة 40%.
- توسع الحرب إلى صراع إقليمي شامل قد يزيد الخسائر الاقتصادية لإسرائيل، مما يتطلب استعادة الثقة عبر عملية سلام أو القضاء على التهديدات، وكلاهما يحمل تكاليف كبيرة.
بعد مرور عام على اندلاع طوفان الأقصى المبارك، بدأت تثور الشكوك في شأن الحكمة التقليدية بعدم قدرة إسرائيل على الاستمرار في حرب طويلة تتجاوز الستة أشهر، خصوصاً مع ميلها الحالي إلى توسيع نطاق الصراع ونقل مركز ثقله العسكري إلى جنوب لبنان، وربما لاحقاً إلى حرب شاملة مع إيران وغيرها، فيبدو أن إسرائيل لا تزال قادرة على الاستمرار في إدارة صراع عسكري طويل مع خصومها المُشتَّتين بضعف التنسيق، والمترددين تحت سيف تهديدات الولايات المتحدة والقوى الغربية المدعومة بالقواعد العسكرية وحاملات الطائرات والبارجات الرابضة في البحرين الأبيض والأحمر.
ولا يمكن بالطبع إنكار دور الدعم الغربي الهائل في التخفيف من وطأة الحرب على إسرائيل، سواء العسكري المباشر الذي يضعف ويحدّ من جرأة وفاعلية القوى القليلة المناهضة لها في المنطقة؛ بما كان يمكن أن تسبّبه لها من خسائر أكبر، أو الاقتصادي غير المباشر عبر حُزم المساعدات المالية والعينية التي تخفّف الضغط عن اقتصادها ومواطنيها، فضلاً بالطبع عن الغطاء السياسي والإعلامي الذي يعوق أي فاعلية للمنظمات الدولية أو للتضامن الإنساني والدبلوماسي مع الفلسطينيين وضد إسرائيل.
لهذا فالحقيقة أنه خلافاً للظاهر للعيان من أن رغبة إسرائيل في التوسّع بالحرب تعكس قدرتها على الاستمرار، أنها تعكس العكس بالضبط، وهو رغبتها في نقل جزء معتبر من عبء الحرب إلى حلفائها الغربيين الذي سيضطرّون إلى التورّط تورّطاً مباشراً وشبه كامل في أيّ حرب كبيرة تخوضها إسرائيل في المنطقة؛ لما تشمله حرب كهذه من اضطراب في كامل منظومة الهيمنة الأميركية بها، خصوصاً ضد خصوم مُستهدفين من القوى الغربية والإقليمية منذ وقت طويل، كإيران خصوصاً؛ فتوسّع نطاق الحرب يخدم إسرائيل ويرفع عنها جزءاً كبيراً من عبئها، ناهيك عما يشمله من إنقاذ سياسي لنتنياهو الذي اعتمد استراتيجية القفز إلى الأمام والتعبئة ضد تهديدات خارجية مهرباً من المحاسبة الداخلية التي تنتظره منذ ما قبل الطوفان.
وما يدعم هذا السيناريو خصوصاً هو أولاً الفشل، النسبي، في العملية العسكرية بغزة بحسب تقدير العسكريين الإسرائيليين أنفسهم بعدم تحقيقها هدفها الأساسي في القضاء على قدرات حماس، وثانياً ما تشعر به إسرائيل من تهديد هائل باجتراء المزيد من القوى الإقليمية عليها بعد الطوفان، بالضربات العديدة من حزب الله والحوثيين، فضلاً عن إيران والفلسطينيين أنفسهم بالطبع؛ بما يمثّله استمراره من تهديد وجودي لكامل المشروع الصهيوني، بتدمير مصداقية الكيان ملاذاً آمناً لكل يهود العالم؛ ما يفرض على إسرائيل بحسب رؤية استراتيجييها تدمير كامل خصومها إذا أرادت مجرد البقاء.
لكن السؤال، على نطاق أضيق قليلاً، هل يستطيع اقتصاد إسرائيل تحمّل حالة حرب كبيرة أو شبه دائمة، حتى مع الدعم الغربي؛ فالتاريخ يشهد بالعكس؛ إذ انعكست الصراعات عليها دوماً بأثر اقتصادي معتبر، كما كان الحال في ثمانينيات القرن الماضي الكارثية اقتصادياً، وكما يؤكد التاريخ أن إسرائيل لم تشهد ازدهاراً اقتصادياً حقيقياً منذ تأسيسها سوى في التسعينيات بعد اتفاقات سلام أوسلو.
لهذا، فمع كل الدعم الغربي، وما يبدو من صلابة إسرائيلية ظاهرية، تكمن كثير من بوادر وإشارات الضعف المتراكمة التي لا يمكن أن تتحمّلها إسرائيل طويلاً، في ظل ما وصفه بتسلئيل سموتريتش وزير المالية أواخر سبتمبر الماضي بالحرب الأطول والأغلى في تاريخ إسرائيل، والذي دعمه تحليل تومير فادلون وإيستيبان كلور، الباحثَين في معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب، بأنها تختلف عن أيّ نزاع عسكري سابق منذ الانتفاضة الثانية من جهة مدى أثرها على الاقتصاد الإسرائيلي؛ مع تخوّفات من احتمالية معاناة إسرائيل ضياعَ عقد كامل على الاقتصاد، كـ"العقد الضائع" الشهير بعد حرب أكتوبر 1973؛ تحت ضغط المصاعب الأمنية وارتفاع الإنفاق على الدفاع وتراجع الإنفاق الاستهلاكي والاستثمار الأجنبي المباشر وغير ذلك.
تأزّم مالي واختلال كلي
بحسب تقرير لديفيد بروديت في مركز القدس للأمن والشؤون الخارجية الإسرائيلي، أواخر سبتمبر الماضي، بلغت تقديرات النفقات المباشرة للحرب، سواء عسكرية أو مدنية، حوالي 180 مليار شيكل، أو 48 مليار دولار تقريباً، منذ بداية الحرب وحتى نهاية العام الجاري، بخلاف المعونات الأميركية الرسمية المُعلنة البالغة 14 مليار دولار بحسب أدنى التقديرات، فيما يُقدّر فاقد الناتج المحلي الإجمالي بنحو 17 مليار دولار حتى نهاية العام الحالي، وتُقدر تكاليف إعادة تأهيل ما دُمّر من مبانٍ ومعدات وبُنى تحتية بحوالي 20 مليار دولار، فضلاً عن 15 مليار أخرى لتعويض خسائر المعدات العسكرية، وبما بلغ بمجموعه بالتكاليف المختلفة الأخرى نحو 95 مليار دولار تكلفةً إجمالية للحرب خلال حوالي سنة، أو ما يُعادل 18% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي لإسرائيل، وبما يتجاوز التقديرات الأولى بعد الطوفان مباشرةً بمقدار 58 مليار دولار، بوصفها تكلفة إجمالية للحرب، بزيادة بنسبة 64% تقريباً.
ويُتوقّع الآن وصول عجز الموازنة إلى 8.1% من الناتج المحلي الإجمالي بما يوازي تقريباً ثلاثة أمثال توقعاته قبل الحرب، مع توقعات بزيادته إلى مستويات أبعد مع توسّع الصراع، ورغم كل الدعم المالي والعيني من الولايات المتحدة، اضطر وزير المالية الإسرائيلي في 16 سبتمبر الماضي إلى طلب موافقة البرلمان على زيادة جديدة للعجز في الموازنة للمرة الثانية في العام نفسه؛ ما نتج عنه ارتفاع الدين الحكومي من 60% إلى 70% من الناتج المحلي الإجمالي خلال عام واحد، مع توقعات بارتفاعه إلى 80% منه في عام 2025، وبطبيعة الحال ارتفعت فوائد الديون الحكومية مع ارتفاع عجز الموازنة والدين العام؛ بما أثّر سلباً على التصنيف الائتماني لإسرائيل (ومعها ثقة المستثمرين وعلاوة المخاطرة ومعدلات التضخّم وقيمة العملة)، رغم مماطلة الوكالات المعنية في خفض التصنيف مجاملةً لإسرائيل.
ومن المُتوقّع أن يضعف كل هذا التأزّم المالي بأبعاده المختلفة، من ارتفاع لنفقات الديون والفوائد وأسعار الفائدة، مُتضافراً مع انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر مع التخفيض الائتماني، من معدلات النمو الاقتصادي الكلي، التي انخفضت بالفعل إلى نحو 2% في عام 2023، ويُتوقع ألا تتجاوز ما بين 0.5 و1% في عام 2024 الجاري؛ بما يعني ضمنياً انخفاض متوسط الناتج المحلي الإجمالي للفرد، ما يتجاوز بآثاره آثار فترة كورونا؛ بفعل تشعّب آثار الحرب عبر كل القطاعات، وإضرارها بالقطاعات الحيوية، كالزراعة والصناعة التحويلية والتكنولوجيا الفائقة، بشكل خاص؛ بفعل التعبئة المستمرة لقوات الاحتياطي ومنع قوة العمل الفلسطينية واضطرابات سلاسل الإمداد والتوريد وغيره.
كما أدت التعبئة العسكرية الواسعة إلى تناقض شاذ بين معدَّلَي النمو والبطالة، حيث انخفضا معاً خلافاً للمنطق الاقتصادي؛ فأصبحت البطالة في أدنى مستوياتها رغم انخفاض النمو الكلي؛ نتيجة لعدم حساب العمالة المحوّلة إلى القوة العسكرية ضمن البطالة، بينما تمثّل في الواقع هدراً لا يسهم في النشاط الاقتصادي بأيّ شيء؛ ما يمثّل تكلفةَ مُزدوجة على الاقتصاد، من جهة فاقد الإنتاج والنمو، ومن جهة الأجور غير المُنتجة.
وعلى صعيد الاستثمار الأجنبي المباشر وثقة المستثمرين عموماً، انخفض الأول بنسبة 40% عن العام الماضي، كما ارتفعت معدلات هروب رؤوس الأموال من البلد، والتي وصلت تدفقاتها ما بين شهري مايو ويوليو الماضي إلى ملياري دولار، ما يُعادل ضعف نظيرتها للفترة نفسها قبل عام، وسجّل أكبر ثلاثة بنوك إسرائيلية ارتفاعاً كبيراً في طلبات العملاء نقل مدخراتهم إلى بلدان أخرى أو إعادة تقييمها بالدولار بدلاً من الشيكل الإسرائيلي، كما تلقّى قطاع الشركات الصغيرة ضربة قوية بالحرب، فلأول مرة منذ سنوات سيتجاوز عدد الشركات التي ستغلق القطاع عام 2024 عدد الجديد الذي سيفتح لأول مرة، وتمثل هذه الفئة 77% من إجمالي الشركات التي أغلقت منذ بداية الحرب، وهو الإجمالي الذي يُتوقّع بلوغه 60 ألف شركة في نهاية العام الجاري.
أما في قطاع التكنولوجيا الفائفة، المسؤول وحده عن نصف الصادرات الإسرائيلية، فقد انخفضت الاستثمارات بالقطاع في الربع الثالث من العام الجاري بنسبة 70% مُقارنةً بالربع الثاني منه، وأكثر من 50% مقارنة بالربع الأول منه، لتصل إلى 938 مليون دولار فقط ضمن 61 صفقة، ما يمثّل أقل قدر من الاستثمارات حقّقه القطاع منذ الربع الثالث لعام 2017، كذا أقل عدد من الصفقات طوال العقد الماضي.
كما تتنامى على المستوى الأوسع، في البورصات والأسواق الأميركية والأوروبية، اتجاهات جنينية بين الشركات وكبار المستثمرين لتقليص تعاملاتهم مع الشركات الإسرائيلية، وفي الأسهم والأسواق الإسرائيلية، ضمن حركة أوسع نطاقاً وُصفت بالمقاطعة الصامتة؛ تحت ضغط التهديدات الاستراتيجية والإشكالات الأخلاقية المُتصاعدة بشأن التعامل فيها، رغم كل المحاولات الرسمية وغير الرسمية لمقاومة هذا الاتجاه.
أفقر في جميع السيناريوهات
وأهم ما في هذه الآثار أنها كلها، من جهة، لا تزال مجرد بدايات لاتجاهات يرجح اتساعها حال استمرت الحرب واتسع نطاقها، وأنها من جهة أخرى، لم تظهر كامل آثارها بعد، ناهيك عما يمكن أن ينتج عن تكاملها وتشابكها الطبيعي، خصوصاً عندما تبدأ الدورة العكسية للمُضاعف الكينزي بتفعيل الآثار السلبية التراكمية لهذه التسرّبات من تدفقات الدخل والاستثمار بالاقتصاد الإسرائيلي.
وقد أسهم سوء تحديد الأهداف العسكرية للحرب، خصوصاً غير الواقعية كتدمير كامل قوى حماس وحزب الله، في تضخّم تكلفة الحرب على الاقتصاد الإسرائيلي بحسب آراء الخبراء الإسرائيليين، فضلاً عن تعميقه مناخ عدم اليقين وفقدان الثقة بما أجبر وكالات التصنيف الائتماني في النهاية على خفض تصنيفها لإسرائيل مرتين في عام واحد، وتحوّل نظرتها المستقبلية إلى السلبية، بل توقّعت وكالة موديز أن يصبح الإسرائيليون أفقر في جميع السيناريوهات المستقبلية المُحتملة؛ نتيجةً للآثار طويلة الأجل للحرب.
مُفارقة الرفاهية والخاسر الأكبر
أما في حال اتساع نطاق الحرب الحالية إلى حرب إقليمية شاملة، فالمُفارقة أن الخسارة الحدّية للاقتصاد الإسرائيلي ستكون الأكبر "نسبياً" مُقارنةً بأغلب الخصوم الإقليميين في المنطقة؛ فكما في البيولوجيا، كلما ازداد تطوّر الكائن الحيّ كان أكثر هشاشة، كذا كلما تقدّم اقتصاد ما كان أسرع وأحدّ تأثّراً بالاضطرابات من الاقتصادات الأقل تقدّماً؛ لأسباب فنية واقتصادية، بل حتى حسابية بحتة، كما أن فاقد الرفاهية الحدّي أو النسبي يكون أكبر، كلما كان متوسط الدخل أعلى.
وفي سياق الحرب المعاصرة عموماً، ربما تكون الفوارق الحدّية لفواقد الرفاهية هذه الميزة الاقتصادية الأساسية، وربما الوحيدة تقريباً، لأغلب القوى المناهضة للقوى الغربية عموماً، بما فيها الأقوى والأثرى نسبياً كالصين وروسيا، فالخسائر الحدّية في مستويات معيشة مواطني هذه الدول لن تُضاهي نظيرتها النسبية المُحتملة لمواطني الدول الغنية؛ ما يعطي جبهتها الداخلية صموداً أكبر في المواجهات الطويلة، إنها مُفارقة الأثر السلبي للرفاهية التي تضع ضغطاً إضافياً يدفع القوى الغربية إلى تفضيل إما المواجهات المُوزّعة، بعيداً عنها، منخفضة الوتيرة وإما المواجهات الجِراحية السريعة شديدة العنف؛ حيث تمثّل بديلتها، أي المواجهات المتوسطة المتطاولة أسوأ الخيارات اقتصادياً، خصوصاً مع الميزة المعنوية للقوى المُناهضة المُتمثّلة في التناقض ما بين طرف يقاتل على أرضه وعنها، راغباً فقط في مكان تحت الشمس، وطرف طامع يقاتل لأجل استمرار هيمنته على أراضي الغير وثرواته.
والمُعضلة المركزية الذي تواجهها إسرائيل اليوم، والتي تتكشّف في تخبّطها الشديد داخلياً، هي أن ما يبدو على سلوكها في المنطقة من علو واستكبار، إنما يعكس بذاته مأزقاً ضخماً تعاني ضمنه خيارين أحلاهما مرّ، فاستعادة ثقة الإسرائيليين أنفسهم مواطنينَ ومهاجرين مُحتملين، ناهيك عن الآفاق الاستثمارية والائتمانية لاقتصادها، يتطلّب إما عملية سلام شاملة تتناقض ومنطق استمرار الدولة اليهودية كياناً دينياً وعِرقياً، وإما قضاءً عسكرياً شاملاً على كل التهديدات المحيطة وعلى القضية الفلسطينية نفسها، بكل ما يتضمّنه ذلك من تكاليف وخسائر مادية ومعنوية، بل شبه استحالة عملية، تَزيد من عداء محيطها وتعمّق عُزلتها الإقليمية وهشاشتها الأمنية؛ بما لا يدمّر آفاق الاقتصاد وترابط المجتمع ويجرّدها إلى جوهرها الحقيقي مجردَ قاعدة عسكرية أمريكية، بل يهدّد استمرار الكيان بمُجمله، مهما بدا الأمر عكس ذلك للمهزومين نفسياً من البداية.