في أعقاب اتخاذها قرار تعويم الجنيه المصري في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2016، حاولت الحكومة المصرية توفير بعض الحماية لعملتها، عن طريق رفع معدلات الفائدة على الجنيه المصري. وتلجأ الحكومات عادة إلى ذلك التوجه لتقليل الحافز لدى مواطنيها لتحويل مدخراتهم من العملة المحلية إلى الدولار في أعقاب اتخاذ قرار التعويم.
ورغم ارتفاعها إلى مستويات تجاوزت 20% خلال الأسابيع التالية لاتخاذ قرار التعويم، لم تمنع معدلات الفائدة المرتفعة انخفاض قيمة الجنيه مقابل الدولار، ليفقد 60% من قيمته في فترة وجيزة، قبل أن يستقر لفترة، ثم يبدأ رحلة الاستقواء، بمساعدة تدفقات العملة الأجنبية الواردة من صناديق التحوط العالمية الساعية وراء معدلات الفائدة المرتفعة، بغض النظر عن حجم المخاطر المصاحبة لها.
وخلال السنوات الثلاث السابقة لظهور فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) مطلع العام الحالي، توالت تدفقات الاستثمارات الأجنبية (غير المباشرة) من صناديق التحوط العالمية، رغبة في التمتع بمعدلات الفائدة المرتفعة على سندات وأذون الخزانة بالعملة المصرية، رغم انخفاضها التدريجي مع مرور الوقت، وهو ما ساهم في ارتفاع قيمة الجنيه مقابل الدولار بنسبة تتجاوز 20%، وإضافة مكاسب غير متوقعة للمستثمرين الأجانب.
لكن مع ظهور الفيروس القاتل، ودخول اقتصادات العالم في أزمات لم نعرف حتى الآن متى وكيف يكون الخروج منها، خرجت نسبة كبيرة من تلك الاستثمارات من مصر، فيما قدره البنك المركزي بنحو 20 مليار دولار، مثلت وقتها ما يقرب من 45% من احتياطي النقد الأجنبي للبلاد.
ونتيجة لذلك، بدأ الجنيه في التراجع أمام الدولار، قبل أن تمنحه القروض الضخمة التي اتفق عليها البنك المركزي المصري قبلة حياة، ليستعيد قوته أمام الدولار، ويبدأ من جديد في اجتذاب الاستثمار الأجنبي. وقال البنك المركزي المصري مؤخراً أنه استعاد ما يقرب من عشرة مليارات من العشرين مليار دولار التي خرجت.
وخلال السنوات الخمس الأخيرة، وفي إطار دعمها للنظام المصري، كانت الإمارات العربية المتحدة من أكثر الدول تشجيعاً لمواطنيها على الاستثمار في أدوات الدين المصرية، من خلال بنوكها، حتى أصبحت أدوات الدين المصرية على رأس المنتجات مرتفعة العائد التي تعمل البنوك الإماراتية على ترويجها بين عملائها، مقابل حصولها على نسبة غير صغيرة من العائد المرتفع الذي يحصل عليه هؤلاء المستثمرون.
وفي حين فرضت الحكومة "المصرية" على المستثمر "المصري" في أدوات الدين الصادرة من الخزانة العامة للدولة "المصرية" ضرائب بنسبة 20% على العائد المحقق من هذا الاستثمار، اتفقت الحكومة المصرية على تخفيض تلك الضرائب على عائد أذون الخزانة التي تشتريها البنوك الإماراتية لصالح عملائها لتكون 10% فقط.
ومع اتفاق التطبيع الإماراتي الإسرائيلي الذي تم توقيعه مؤخراً في العاصمة الأميركية واشنطن، والاندفاع الكبير، بصورة تقترب من المكايدة، في الإعلان عن تطبيق التعاون في العديد من المجالات، كان التعاون الاقتصادي في طليعة الأنشطة المرشحة للانطلاق خلال الفترة الحالية.
والأسبوع الماضي، وقع بنك "الإمارات دبي الوطني"، أكبر بنوك الإمارات، اتفاق تعاون مع بنك "هبوعليم" أكبر بنوك إسرائيل، فيما اعتبر أول اتفاق مصرفي بين بنوك البلدين. وبعدها بيومٍ واحدٍ فقط، وقع بنك لئومي الإسرائيلي مذكرتي تفاهم مع كل من بنكي أبو ظبي الأول، والإمارات دبي الوطني.
وقال مدير عام بنك هبوعليم، دوف كوتلر، إن تأسيس علاقات قوية مع بنك الإمارات دبي الوطني يمثل إنجازا لافتا، سيمكن العملاء في إسرائيل من إجراء معاملات مصرفية مباشرة مع دولة الإمارات، وبالتالي مع دول أخرى.
ومع التسليم بحق كل دولة في التوقيع على ما ترغب فيه من اتفاقات، مع من تراه حليفاً مناسباً وفقاً لتقديراتها، التي يحق لنا بالتأكيد أن نختلف معها، يتعين على حكومات الدول العربية الأخرى، ومنها بالطبع مصر، النظر في تداعيات الاتفاق، في وقتٍ يعتبر فيه النظامان الإماراتي والمصري أن أبوظبي هي الداعم الأكبر والحليف الاستراتيجي الأمثل للقاهرة.
اتفاقات التعاون بين البنوك في الإمارات وإسرائيل سيترتب عليها في وقت قريب جداً، إن لم يكن قد بدأ بالفعل، فتح حسابات لمواطني كلا البلدين في بنوك البلد الآخر، والسماح لهم بالاستثمار في المنتجات التي يعرضونها لمواطنيهم.
ولما كان الأمر كذلك، فليس مستبعداً أن يكون المستثمرون الإسرائيليون من بين العملاء المشترين لأدوات الدين المصرية، وهو ما يعني بصورة مباشرة، لا تحتمل أكثر من تفسير، أن الحكومة المصرية ستقترض من الإسرائيليين.
وفي وقتٍ لا يمكن فيه التكهن بتوجه النظام المصري في ما يخص مثل هذه الأمور، لا ينبغي تجاهل هذه التطورات التي لا أعتقد أنها خطرت على بال المسؤولين المصريين عند وضع السياسات والإجراءات المنظمة لتلك العمليات، وهو ما يؤكد غياب أية ضوابط تحكم أو تحدد من يسمح لهم بشراء تلك الأدوات، ومن يمثل شراؤهم لها تهديداً للأمن القومي، ولمصالح، وكبرياء المصريين.
شراء الإسرائيليين المحتمل لأدوات الدين المصري ليس إلا واحداً من الآثار المتوقعة لتوقيع اتفاق التطبيع بين الإمارات وإسرائيل، والتي لا يمكن أن تسمح المساحة المتاحة هنا لحصرها، خاصة بعد إقدام الحكومة المصرية على الاقتراض من أبوظبي، وسماحها في المقابل بتسهيل دخول المستثمرين الإماراتيين إلى السوق المصرية، وبصفة خاصة في قطاعي العقارات والبنوك.
ورغم توقيع مصر معاهدة سلام مع إسرائيل منذ أكثر من أربعة عقود، لم تجرأ الدولة العبرية على التفكير في شراء أية أصول مصرية، تحسباً لردود الأفعال الشعبية. لكن بعد تبدل الأحوال على النحو الذي شهدناه منذ توقيع "اتفاق إبراهام"، لم يعد مستبعداً أن يصبح أحد البنوك الإسرائيلية شريكاً في أي من بنكي الإمارات دبي أو أبوظبي الأول الموجودين في مصر، أو أن نسمع بوجود شريك إسرائيلي في مستثمر العقارات "إعمار" الإماراتية التي اشترت مساحات لا حصر لها من الأراضي المصرية، على نحو ربما ينذر بتكرار مأساة فلسطين. فهل استعدت مصر لذلك اليوم؟