طرح المجلس الاحتياطي الفيدرالي " البنك المركزي الأميركي"، في شهر يناير/ كانون الثاني الماضي (2022)، سؤالاً موجّهاً إلى الشعب، يستفتيه في اقتراح اصدار عملية رقمية مدارة، أو ما سَمّوه "Managed digital currency".
وقبل ذلك وتحديدا في شهر يونيو/ حزيران من العام 2021، تقدّم وزير المالية البريطاني، ريشي سوناك، باقتراح إلى مجموعة السبع التي عقدت في كورنوول البريطانية، اجتماعها برئاسة رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، فكرة إصدار الدول السبع الرأسمالية الكبرى، وهي كندا واليابان والولايات المتحدة وإيطاليا وفرنسا وألمانيا والدولة المضيفة المملكة المتحدة، عملة مشفّرة واحدة مسيطر عليها من البنوك المركزية، وفق شبكة واحدة وسلوكيات متفق عليها، لضبط استخدام هذه العملة وادارتها.
ومنذ هذين الحَدَثين اللذين هما في غاية الأهمية، ولكن غطت عليهما جائحة كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا، صدرت تقارير كثيرة على الوسائل الإعلامية المختلفة، تناقش هذا المقترح الذي يبدو أن اتفاقاً أميركيا بريطانياً قد بدأ يتبلور بشأنه. وقد وردت في بعض التقارير محاذير من هذا المقترح.
وقال المعارضون إن المقصد من هذه الفكرة أن تكون العملة مدارة من السلطات النقدية المركزية في الدول السبع، وهي ليست إلا محاولة للسيطرة على حسابات الأفراد والشركات لكي تحدّد أسلوب انفاقهم، وبخاصة الاتفاق الاستهلاكي.
والهدف الأساس من السيطرة على الاستهلاك تقليل إنفاق الأفراد لزيادة الادّخار، والسيطرة على حجم الديون العامة التي يبدو أنها انفلتت من عقالها، وصارت تشكل تهديداً صريحاً للمستقبل الاقتصادي لهذه الدول الغنية.
ديون مجموعة السبع
وللتذكير، يبلغ مجموع الناتج المحلي الإجمالي للدول السبع حوالي 44 تريليون دولار، أو ما يساوي قرابة نصف الناتج المحلي الإجمالي للعالم كله. ولكن ديونها تبلغ حوالي 60 تريليون دولار، أو ما يساوي 60% من مجموع ديون العالم. ويبلغ نصيب الفرد الواحد من الديون في دول المجموعة ما يزيد عن 76 ألف دولار.
وقد كان هذا الديْن محتملاً في ظل انخفاض أسعار الفوائد على العملات الرئيسية التي تدفعها الحكومات. ولكن ارتفاع أسعار الفوائد المتوقع خلال الفترة المقبلة سيعني ارتفاعاً كبيراً في كلفة خدمة الديْن العام لهذه الدول.
ولذلك، سيؤدّي إلى اتباع سياسة رفع أسعار الفوائد، واستمرار نقص السلع في العالم إلى وضع محرج داخل الدول الغنية، وسيصبح هم خدمة الديون العامة، وبخاصة في الولايات المتحدة واليابان، كبيراً.
ولذلك نشط الخيال في البحث عن بدائل أخرى، وجاءت فكرة الإسراع في تبنّي نظام العملة الرقمية الرسمي والمدار والمراقب من السلطات النقدية المركزية، أي البنوك المركزية. وسيتيح هذا النظام للسلطات النقدية هذه القدرة على التحكّم في إنفاق الأفراد.
ولهذا، فإن أي دخلٍ يودعه الفرد لدى أي مصرف، سيأخذ مقابله "كوبونات" للإنفاق منها على سلة الاستهلاك الذي تحدّده السلطات له. وهكذا، يصبح هذا النظام النقدي الجديد خارجاً عن بعض الثوابت الأساسية في النظرية الرأسمالية التي تُدرَّس في الجامعات للطلبة، وهي حرية المستهلك في الشراء والإنفاق.
ورُبما لن تقف أمور السيطرة عند هذا الحد، بل قد تصل إلى منع شخص، طبيعياً كان أم اعتبارياً، من التصرّف بودائعه لدى البنوك إذا غضبوا عليه لسببٍ ما، أو لأنه جرّب أن يخالف الأسس والتعليمات المنظمة للإنفاق. وهكذا تضيع الأسس الديمقراطية والحرّية التي تقوم عليها فكرة الرأسمالية.
موت الاقتصاد
وهذا يعود بنا إلى عام 1994، حين أصدر الاقتصادي البريطاني، بول أورميرود ( Paul Ormerod)، كتابه "موت الاقتصاد" (The Death of Economics) الذي سعى فيه إلى القول إن علم الاقتصاد الذي يدرّس كان بعيداً في شرحه عما يجري عملياً داخل الاقتصاد العالمي المعاش، وأن العلم لا يعكس حقيقة ما يجري بقدر ما يُنَظِّر فيها.
ولم يكن هدف الكاتب التقليل من أهمية هذا العلم، بل طالب بإعادة صياغة المبادئ الاقتصادية لتعكس حقيقة ما يجري في العالم.
ومع أن الألق الذي تمتّع به كل من الكتاب وكاتبه قد خَفَّ، إلا أن المطالبة بنموذج اقتصادي جديد صارت مهمه جداً في عالمٍ تغيرت فيه الظروف والثوابت التي يبنى عليها سلوك المتغيرات الاقتصادية، فالنظرية الرأسمالية المفترض أنها تسري على العالم قد ذبلت، وبحاجةٍ ماسّة إلى إعادة صيانة.
في هذا الوقت، نرى بالمقارنة أن مجموعة دول "بريكس"، والتي تأسست في العام 2006 وتضم في عضويتها دول البرازيل وروسيا والهند والصين، وأخيراً جنوب أفريقيا، تشكل ما قدره حوالي 38% من حجم الاقتصاد الدولي، بينما يقلّ مجموع مديونتها عن 20% من مديونية العالم. (أرجو من القرّاء أن يتذكّروا أن مصادر أخرى قد تعطي معلومات مختلفة).
قد تخلق الحرب في أوكرانيا تكتلات اقتصادية، وأن مجموعة البريكس ستضطرّ، من أجل مواجهة مجموعة السبع، أن تحذو حذوها فيما يتعلق بعملة خاصة بها، والتحكّم في استهلاك الأفراد وإنفاقهم، ومن ثم تقليل انكشافهم المالي المتمثل في حجم المديونية العامة في بلدانهم.
قد نكون أمام تحديات جديدة عالمية. والدول العربية مطالبةٌ بأن تدرك الحقائق، وأن تعي أنها في تحوّل تجارتها التدريجي من دول الغرب إلى دول الشرق، قد تجد نفسها مضطرّة إلى الوصول إلى علاقات مع كليهما.
وسلوك السعودية في قبولها اليوان الصيني في صفقات بيع النفط يعكس هذا الواقع، ولكن المطلوب موقف عربي جديد خلّاق، وعلى السلطات النقدية العربية أن تدرسه.