بمزيج من الحذر والترقّب تلقى اللبنانيون مبادرة حاكم مصرف لبنان (المركزي)، رياض سلامة، التي بشّرتهم بتمكين كل مودع من سحب 50 ألف دولار بالتقسيط خلال مدّة خمس سنوات، من الحسابات المقوّمة بالعملات الأجنبيّة.
المبادرة وعدت بتأمين نصف المبلغ بالدولار النقدي، فيما سيتم دفع النصف الآخر بالليرة اللبنانيّة، وفق سعر الصرف المعتمد في منصّة مصرف لبنان لتداول العملات الأجنبيّة.
مع الإشارة إلى أن سعر صرف المنصّة لا يعبّر اليوم عن سعر صرف الدولار الفعلي في السوق الموازية، ما يعني أن الجزء المدفوع بالليرة من العمليّة سيكبّد المودع خسارة ناتجة عن فارق سعري الصرف.
في الشكل، حاول مصرف لبنان أن يسوّق هذه المبادرة كبادرة تعيد الأمل للمودعين بإمكانية استعادة أموالهم ولو تدريجيّاً. لكن سرعان ما برزت التساؤلات التي ستحدد مدى جدوى هذه الوعود من وجهة نظر المودعين: كيف سيتم تمويل السحوبات النقديّة بالدولار، ومن أين؟ وما هي كلفتها الإجماليّة بالعملة الصعبة على النظام المالي؟ وهل ستسهّل هذه السحوبات سداد جميع التزامات المصارف تجاه المودعين على المدى الطويل؟ أم ستكون مجرّد حبّة مهدّئ مؤقّتة تؤجّل التعامل معهم لسنوات طويلة مقابل جزء صغير جدّاً من حقوقهم؟
في المبدأ، أعلن حاكم مصرف لبنان أنّه بصدد التفاوض مع المصارف اللبنانيّة لتنفيذ هذه الخطّة، ما يوحي بأنّه يتجه إلى تحميل الموجودات الخارجيّة للمصارف جزءاً وازناً من هذه السحوبات.
لكنّ نظرة سريعة على آخر الميزانيات المجمّعة للمصارف تظهر أنها كانت لغاية شهر آذار/ مارس الماضي مدينة بنحو 5.95 مليارات دولار للمؤسسات الماليّة الأجنبيّة، في حين لم تكن تملك في حساباتها لدى المصارف المراسلة بالعملة الصعبة وفي سائر موجوداتها الخارجيّة إلا نحو 4.89 مليارات دولار، ما يعني أن صافي الموجودات الخارجيّة لدى المصارف سجّل عجزاً قيمته 1.06 مليار دولار.
ما طرحه مصرف لبنان الآن، وعلى العكس تماماً، لا يمثّل سوى تفريط بآخر مكامن السيولة المتبقية في النظام المصرفي، دون أن يعالج أصل المشكلة
لهذه الأسباب، لا تملك المصارف فعلاً القدرة على تمويل هذه السحوبات من حساباتها الخاصّة في الخارج، فيما يكمن الحل الوحيد بالنسبة للنظام المصرفي في سحب هذه الأموال من احتياطات المصارف المودعة لدى المصرف المركزي.
وعملياً، تمثّل هذه الاحتياطات آخر ما تبقى من السيولة بالعملة الصعبة في المصرف المركزي، والتي يستعملها المصرف اليوم لتمويل استيراد السلع الأساسيّة من محروقات ودواء ومواد غذائيّة، بالإضافة إلى عقود الدولة الحيويّة، كشراء الفيول المستعمل لتشغيل معامل الكهرباء. مع العلم أن ما تبقى من هذه السيولة اليوم يمثّل الاحتياطات الإلزاميّة التي جرى إيداعها كضمانة للمودعين.
وفقاً للأرقام التي ينشرها مصرف لبنان كل أسبوعين، بات مستوى هذه الاحتياطات اليوم لا يتجاوز حدود الـ16.4 مليار دولار، فيما ستكلّف عمليّة السحوبات التي يتحدّث عنها مصرف لبنان نحو 11 مليار دولار وفقاً لتقديرات الخبراء.
علماً أن كلفة السحوبات الدقيقة يصعب تحديدها اليوم قبل إحصاء عدد الحسابات القائمة وتوزّع السيولة على هذه الحسابات.
لكن في كل الحالات، يبدو من الواضح أن عملية السحوبات هذه قادرة على استنزاف ما يقارب ثلثي احتياطات المصرف المركزي، دون أن تشكّل عملياً أي حل جذري لمشكلة المودعين على المدى الطويل. ووفقاً للأرقام، لن تعالج جميع السحوبات التي سيسمح بها المصرف المركزي طوال السنوات الخمس، سواء بالعملة المحليّة أو بالدولار، سوى 20% من إجمالي التزامات المصارف للمودعين، ما يؤكّد أن ما يطرحه المصرف المركزي لا يمثّل معالجة شاملة لهذه الأزمة، بل مجرّد تأجيل طويل الأمد.
في الواقع لا تكمن مشكلة الطرح الأساسيّة في كونه يستنزف الاحتياطات. فهذه الاحتياطات مودعة أساساً لتكون ضمانة المودع الأخيرة، لا للإمعان في إنفاقها على دعم الاستيراد كما جرى طوال الأشهر الماضية.
لا يمكن الرهان على أي طرح لا يعالج جذرياً هذه الفجوة، خصوصاً أن استعادة التدفقات الماليّة الخارجيّة إلى النظام المصرفي مستحيلة دون استعادة الثقة بهذا النظام
لكن الإشكالية تكمن في أن استعمال هذه الاحتياطات لا يأتي مصحوباً بخطة شاملة تكفل معالجة الخسائر المتراكمة في النظام المصرفي، وتعيد انتظامه خلال سنوات معدودة، وهو ما يمكن أن يعيد للمودعين حقوقهم على المدى الطويل.
كما لا يأتي هذا الطرح مصحوباً برؤية تعالج أزمة تعثّر الدولة في سداد ديونها، لتستعيد البلاد لاحقاً ثقة الأسواق بها، ولتستفيد من تدفقات ماليّة خارجيّة تنعش نظامها المالي.
ما طرحه مصرف لبنان الآن، وعلى العكس تماماً، لا يمثّل سوى تفريط بآخر مكامن السيولة المتبقية في النظام المصرفي، دون أن يعالج أصل المشكلة، وهو ما سيعني فعلياً الإطاحة بآمال المودعين على المدى الطويل، مقابل حصولهم خلال خمس سنوات على فتات حقوقهم.
أما المشكلة الأخرى في هذا الطرح، فستكون خسارة المصرف المركزي للسيولة المتوفرة بيديه للتدخّل في سوق القطع في حالات الطوارئ، أو في الحالات التي تفقد فيها الأسواق القدرة على تأمين العملة الصعبة لاستيراد أكثر السلع حيويّة للمجتمع، خصوصاً كون هذا الطرح يأتي قبل أن يعالج مصرف لبنان مشكلة انهيار سعر الصرف وشح العملة الصعبة.
متى يستعيد المودع أمواله إذاً؟
تشير الدراسات إلى أن ميزانيات مصرف لبنان المركزي تحمل في طياتها فجوة بالعملة الصعبة بقيمة 61.95 مليار دولار، وهي تحديداً الفارق بين ما يتوجّب على المصرف المركزي دفعه من التزامات بالعملات الأجنبيّة، وما تبقى من سيولة بهذه العملات.
مع العلم أن التزامات المصرف المركزي تمثّل بغالبيّتها الساحقة أموال المودعين التي وظفتها المصارف لديه، في حين أنفق المصرف الجزء الأكبر من السيولة بالعملات الأجنبيّة سابقاً في عمليات تثبيت سعر الصرف وتمويل الاستيراد.
ولهذا السبب تحديداً، لا يمكن الرهان على أي طرح لا يعالج جذرياً هذه الفجوة، خصوصاً أن استعادة التدفقات الماليّة الخارجيّة إلى النظام المصرفي مستحيلة دون استعادة الثقة بهذا النظام، وهي مسألة تبدأ من معالجة هذه الخسائر المتراكمة.
وفي الوقت الراهن، لن يصب طرح مصرف لبنان الأخير إلا في سياق شراء بعض الوقت، ولتهدئة غضب الشارع على أعتاب مرحلة رفع الدعم، مع ما سيصاحبها من تضخّم وارتفاع جنوني في أسعار المواد الأساسيّة.
على أي حال، من المؤكّد أن أي خطة فعليّة للحل ستبقى مسألة متعذّرة خلال الفترة المقبلة، خصوصاً أن البلاد تمر حالياً في حالة من الشغور في السلطة التنفيذيّة، بعد استقالة الحكومة منذ حصول انفجار مرفأ بيروت في شهر آب/ أغسطس الماضي وعدم تشكيل حكومة جديدة منذ ذلك الوقت.
ومن المعلوم أن حكومة تصريف الأعمال لا تملك الصلاحيات الدستوريّة ولا الغطاء السياسي اللازم للشروع بخطة ماليّة شاملة من هذا النوع.