يوماً بعد يوم تتلاشي الفوارق "بيننا وبينهم"، تذوب الخطوط الفاصلة بين الدول النامية والدول المتقدمة، ونكاد ننصهر في "وعاء" واحد، لكن المحزن في الأمر أنهم هم الذين يتراجعون ونحن لا نتقدم، والوعاء الذي يكاد يجمعنا يقع في درجة متدنية جداً في سلم التطور الإنساني والحضاري.
نظرة سريعة إلى ما يجري كل يوم في العالم المجنون عندهم تظهر ذلك بوضوح. فقبل سنةٍ واحدة من الآن، لم يتصور أحد أن يهدد الرئيس الأميركي كوريا الشمالية بإبادتها باستخدام الأسلحة النووية من على منبر "تويتر"، ورئيس كوريا الشمالية الذي لا أذكر أني سمعت له أي حديث من قبل يرد عليه بوصفه أنه "خَرِف".
وقبل ذلك اختار الشعب البريطاني الخروج من الاتحاد الأوروبي، وها هو فريق برشلونة يلعب مبارياته بدون جمهور بسبب الاحتجاجات المطالبة بالانفصال في إقليم كتالونيا.
كما أعلنت هيلاري كلينتون، المرشحة الخاسرة في انتخابات الرئاسة الأميركية، بعد مرور تسعةِ أشهرٍ من إعلان نتيجة الانتخابات، أنها ما زالت لا تتقبلها، وكنت أظن كل هذا لا يحدث إلا "عندنا".
ولم تقف الأمور عند الأمثلة التي ذكرتها، وكأن ترامب يأبى إلا أن يكون له قسم خاص به عندهم في ذلك الكتاب المشين، فيعلن عن تفاصيل خطة للإصلاح الضريبي كانت من أهم دعامات حملته الانتخابية، على وعد أن يستفيد منها بالأساس أصحاب الدخول المنخفضة والمتوسطة.
ثم تظهر الملامح الرئيسية للخطة، وإذا بها تسير عكس الاتجاه الموعود تماماً، بينما يظل الرئيس الأميركي يؤكد أنها تخدم محدودي ومتوسطي الدخل أكثر مما تفعل للأثرياء. ويقف الرجل أمام الاتحاد الوطني للصناع، وأغلب الحاضرين من ذوي الياقات الزرقاء من أصحاب الدخول الدنيا والمتوسطة، ليؤكد لهم أنه لم يفعل ذلك إلا من أجلهم هم، وأكاد أسمعه يقول "انتو مش عارفين ان أنتم نور عينينا؟".
وعلى طريقة رفع أسعار البنزين والغاز والكهرباء والمياه ورغيف العيش وخطوط وكروت الاتصالات على المواطنين "عندنا" ثم إخبارهم أن ذلك كله "يصب في مصلحة المواطن"، أعلن الرئيس الأميركي خطته المقترحة للإصلاح الضريبي التي يسعى لتمريرها داخل الكونغرس، وأعلن أنها في صالح الطبقات المتوسطة، رغم أنها تخفض الضرائب على أعلى شريحة من دخول الأفراد من 39.6% إلى 35%، بينما ترفعها على أصحاب الدخول التي تقع في أقل شريحة دخل من 10% إلى 12%.
ثم أعلن مرة أخرى أنها ليست في صالح الفئات الأكثر دخلاً، بينما تسمح الخطة المقترحة لأصحاب الدخول الأعلى بإنشاء كيانات تمريرية، وهي شركات بأسمهم تسمح لهم بدفع ضرائب مجمعة تطبق على دخولهم الفردية والأرباح التي تحققها تلك الشركات معاً، وبنسبة لا تتعدى 25% في حدها الأقصى. فتهبط الضرائب المستحقة على الدخول الأعلى من 39.6% إلى 35%، ثم إلى 25%.
ثم أعلن مرة أخرى أنها ليست في صالح الأثرياء أو الشركات الكبيرة، رغم أنها تلغي ما كان يعرف باسم "ضريبة الحد الأدنى البديلة "AMT، وهي ضريبة دخل إضافية كانت الحكومة الأميركية تفرضها على بعض الأفراد والشركات ممن لديهم إعفاءات ضريبية خاصة، حتى لا يتهرب أصحاب الدخول المرتفعة والشركات الكبيرة من دفع ضرائب عالية تتناسب مع دخولهم وأرباحهم، كما ألغى ما تبقى من ضرائب على الأملاك.
ثم أعلن مرة أخرى أنها ليست في صالح الشركات العملاقة، رغم أنها تخفض الحد الأقصى للضرائب على تلك الشركات ذات الربحية العالية من 35% إلى 20%.
وأضاف ترامب أنه هو شخصياً سيتضرر من خطة الإصلاح الضريبي التي اقترحها هو وفريقه الاقتصادي، لكن لم يتمكن أحدٌ من التأكدِ من هذه المعلومة، حتى الآن، لا لأنه لم يمتلك في ثلاجته إلا زجاجات الماء، ولكن لأنه هو شخصياً لم يقدم الإقرار الضريبي الخاص به، حتى الآن، رغم مرور تسعةِ أشهرٍ على دخوله البيت الأبيض رئيساً.
وكانت أحدث التقديرات قد أشارت إلى أن ثروة ترامب تقدر بحوالى 3.5 مليارات دولار، أما عن أهم شركائه في الخطة المقترحة، وهم وزير الخزانة ستيف منوشين، وكبير المستشاريين الاقتصادين جاري كون، فيكفي أن نعرف أنهما عملا لسنوات في بنك الاستثمار العملاق جولدمان ساكس، وتقدر ثروة الأول بحوالى 300 مليون دولار، بينما توقفت ثروة الأخير عند 266 مليون دولار.
والآن يحاول الثلاثة إقناع الشعب الأميركي، أن خطة الإصلاح الضريبي ليست من أجل أثرياء أميركا، وإنما هي من أجل توفير الأجواء المناسبة للأغنياء والشركات الكبيرة لتشجيعهم على خلق الوظائف.
هم يراهنون إذاً على نظرية تساقط الثمار من الفئات الأعلى دخلاً إلى الفئات الأقل دخلاً، هل سمعت هذا الكلام من قبل؟!!
ولم ينته الأمر مع خطة الإصلاح الضريبي المقترحة بكل هذا الإفك وحسب، وإنما أكد فريق ترامب الاقتصادي في أكثر من مناسبة أن التخفيضات الضريبية المقترحة، والتي ستتسبب في انخفاض الإيرادات الضريبية بما لا يقل عن 1.5 تريليون دولار خلال 10 سنوات، وقد يصل الرقم إلى 5 تريليونات دولار، سيتم تمويلها ذاتياً.
ولا يتوقع هؤلاء أن يكون هذا التمويل الذاتي عن طريق صندوق "تحيا أميركا" أو "شهادات قناة واشنطن"، وإنما عن طريق تخفيض الضرائب التي تدفعها الشركات الكبيرة، فتنخفض تكاليفها وتتوسع وتحقق أرباحاً أعلى فتدفع ضرائب أكثر!
لم يعبأ ترامب بالإضافات التي سيلقيها على عجز الموازنة، وما يؤدي إليه ذلك من زيادة الدين العام الذي وصل لأعلى مستوياته التاريخية ومن ثم ارتفاع تكلفة الاقتراض. لقد وعده مستشاروه أن التخفيضات الضريبية سيتم تعويضها ذاتياً، لكنهم لم يقدموا برهاناً واحداً على ذلك.
ورغم أن كل الذين من قبلهم قالوا مثل قولِهم، إلا أنه لم يثبت مطلقاً أن تحقق ذلك في تاريخ أميركا. فما كان من ترامب إلا أن توجه لشعبه بالكلام وقال لهم "صدقوني أنا فقط وما تصدقوش حد غيري"، وكأنه يتحدث لشعبه من داخل قصر الاتحادية بمصر أو من ميكروفون قاعة المؤتمرات بمدينة نصر.
لكن الفارق الذي ما زال موجوداً "بيننا وبينهم" هو أنه لم يجرؤ أن يقول لهم "مش عايز أسمع كلام في الموضوع ده تاني". فلن تمر خطة ترامب للإصلاح الضريبي بسهولة داخل الكونغرس بدون تعديلات، ولن يقف الحزب الديمقراطي مكتوف الأيدي أمام كل هذ الخلط للأمور.
وستكون معركة تمرير الخطة داخل الكونغرس معركة شرسة. فالكونغرس "عندهم" بمجلسيه ليس صورياً، ويقوم كل مشرع فيه بدوره كاملاً في حماية مصالح الناخب، رغم أنه لا توجد به تكتلات أو أحزاب من نوعية "دعم أميركا" أو "مستقبل وطن"، ولا يتسابق أعضاؤه على الفوز بتأشيرات زيارة لكنيسة القيامة أو حائط المبكى.