عند ابتداء شهر رمضان الماضي، قامت أربع دول عربية ذات علاقة وثيقة بدولة قطر بإعلان مقاطعتها اقتصادياً، وفرض حصار جوي وبري وبحري عليها. وقد مضى حوالى ستة أشهر على ذلك القرار، والذي لم يجد طريقاً إلى الحل، ما يرشحه لمزيد من التصعيد والتفاقم، ويجعل احتمالية انفراط عقد مجلس التعاون الخليجي أمراً أكثر من محتمل، وأقل من مؤكد.
وقد أدى القرار، كما توقع محللون كثيرون، إلى مزيد من المشكلات، فالدبلوماسية التي تخلط بين القوة والكبرياء لا تقبل بفشل مشروعها، ما يدفعها إلى اتخاذ إجراءات أخرى، إما على الجبهة نفسها، أو على جبهات أخرى.
وإذا طرحنا فكرة التنابز والغيرة، والأسباب الشخصية، جانباً، فإننا سنفترض أن إعلان الحصار على قطر بهذا الحجم، وبهذا الشكل المفاجئ، كان له غاية مدروسة، وهي دفع قطر إلى رفع الراية البيضاء خيفةً ورهبة من العواقب، والقبول بمعظم، إن لم يكن كل، المطالب الثلاثة عشر التي قدمت إليها.
ولكنْ لقطر أصدقاء ومناصرون، بعضهم مثل تركيا وفرنسا وألمانيا. أما باقي الدول في الاتحاد الأوروبي فلم ترَ عدلاً وإنصافاً في استهداف قطر بهذا الأسلوب. ودول أخرى لم تكن صديقة لقطر، بل تجمعها بها علاقات مصالح حذرة، مثل إيران التي سارعت إلى الوقوف مع قطر، على أساس أن قطر الآن في حالة استعداءٍ من السعودية، خصم إيران وعدوها، ما جعل قطر في عين إيران "عدو عدوي صديقي".
واستوعبت قطر الصدمة الأولى، ووفر هذا الصمود والاستيعاب فرصاً جديدة لدولٍ كانت بانتظار هذه الفرص، فإيران فتحت الأبواب على التعامل التجاري والمالي مع قطر، واستفادت سلطنة عُمان ودولة الكويت من موقفهما المحايد، حيث فتحتا حدودهما وأجواءهما ومياههما الإقليمية أمام قطر. أما تركيا فأرسلت جنودها للدفاع عن قطر ضد أي حملة عسكرية قد تستهدفها، ووسعت تجارتها وخدماتها المباعة لقطر. وكذلك استفادت روسيا، وأوروبا وحتى الولايات المتحدة.
والآن، كما توقعنا سابقاً، لم تفلح الأزمة مع قطر في منح الحلفاء في حرب اليمن ورقة تفاوض إضافية حيال إيران. وهذا أدى، بالطبع، إلى اتخاذ الدول المحاصرة إجراءات أمنية داخلية لمحاربة الفساد واحتواء آثاره. ولذلك أوقف أمراء ووزراء ورجال أعمال كبار، وأودعوا رهن الإقامة الجبرية، بعد اتهامهم بالفساد والرشوة، والانتفاع من مواقعهم وعلاقاتهم لتحقيق مكاسب شخصية.
وبعد هذه القرارات، كان لا بد أن تُسلب إيران ورقة تفاوضية، بدل التي كسبتها في تمتين علاقاتها مع قطر. وجاءت أزمة استقالة الحريري، والتي وحّدت اللبنانيين، بمختلف طوائفهم ومذاهبهم وانتماءاتهم الحزبية والسياسية، صفاً واحداً ضد قرار استقالة الشيخ سعد الحريري من رئاسة الحكومة من الرياض وفيها.
ومع تمتع دولٍ، مثل السعودية، برصيد عالٍ من القبول والشعبية في لبنان، فإن ذلك لم يشفع لها، عندما اعتقد اللبنانيون أن رئيس وزرائهم رهن الإقامة الجبرية، على الرغم من أن الرئيس الحريري سعودي الجنسية، كما صرّح بذلك وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير.
إذن، نحن في الخليج أمام مشكلات كبيرة. الأولى حرب اليمن، والثانية تدهور العلاقات مع إيران، وثالثها حصار قطر، ورابعها الإجراءات الداخلية في السعودية وفي دولة الإمارات. وخامسها وأقربها إلى الحل استقالة رئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، وما قد يتبعها من تطوراتٍ على الساحتين، اللبنانية والخليجية.
وتنقل الإشاعات كذلك عدم رضا الديوان الملكي الأردني عما يُشاع عن حلٍ للقضية الفلسطينية باتفاقٍ أشرف عليه من الجانب الأميركي، جاريد كوشنر، زوج ابنة الرئيس دونالد ترامب، والأمير محمد بن سلمان من المملكة العربية السعودية، خصوصاً في ظل ما يجري تناقله على لسان الساسة الإسرائيليين من تفاهم عميق وتنسيق كبيرين مع دول الحصار وإسرائيل.
وإذا صحت هذه الإشاعات، فلا شك أن من حق الأردن أن يعتب ويلوم، فالأردن هو الأقرب إلى القضية الفلسطينية، وهو الأكثر تأثراً بنتائج أي سلام يُتفق عليه بين فلسطين وإسرائيل.
وأما بالنسبة للرئيس محمود عباس، والذي زار المملكة العربية السعودية، فتقول الشائعات إنه طُلب منه في أثناء زيارته الرياض التوقيع على مشروع كوشنر الذي يعطي إسرائيل القدس والسيادة والحدود والمستوطنات والأمن في مقابل حكم ذاتي على طراز الكانتونات في المدن والبلدات الفلسطينية. وهذا حل غير مقبول أردنياً أو فلسطينياً.
قد تكون كل هذه الوقائع شائعات على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، ونفخت فيها هذه حتى المبالغة المفرطة، ولكن عدم الرد عليها لا يقلل من مصداقيتها، بل يجعلها أكثر قبولاً لدى الجماهير العربية. وقد صار العرب يتوقعون حدوث انفجاراتٍ كبيرة، وتحولات خطيرة في المنطقة، وكأنه كتب عليها ألا تقارب على الخروج من أزمةٍ إلا مقابل انفجار أزماتٍ أخرى أكبر وأشد.
فما هي الدروس المستفادة مما جرى؟
أولها: أن أمن أي دولة في الخليج، أو دولة مجاورة لمنظومة الخليج، يؤثر تأثيراً مباشراً على أمن الخليج كله في البداية، وأمن المشرق العربي ومصر لاحقاً. ولذلك، لا مجال للتفريط في أمن أي دولة. ألم نتعلم من الدروس السابقة؟
وثانيها: أن دول الخليج التي شكت أحياناً من بطء إجراءات التكامل الاقتصادي فيها كانت فعلياً تنعم بعلاقات اقتصادية متميزة في كل المجالات، سواء التجارية أم الخدمية أم الاستثمارية فيها. وكانت سوقاً كبيرة واعدة. ولكن أزمة قطر بينت أن كل هذه الفوائد قد تتحوّل إلى تحدياتٍ عندما تنفصم العرى. فالتجارة والاستثمارات بدأت تتحول عن التبادل بين دول الخليج إلى دول أخرى في المنطقة وفي العالم.
وثالثها: أن البرامج الكبرى المعوّل عليها للمرور بمرحلة التحول الاقتصادي من دول ريعية إلى دول منتجة متعدّدة المصادر والنشاطات ومتنوعة الإنتاج أصبحت رهينةً للحروب والخلافات السياسية داخل المنطقة، وبين المنطقة الخليجية ودول أخرى. وإن أي تنوع اقتصادي مستهدف قد ينطوي على تكاليف إضافية باهظة.
ورابعها: هدر الأموال بمقادير كبيرة قد تهدّد جبل الأرصدة المالية بالذوبان السريع، ما يحرم دول الخليج من تمتين مواقفها مع محطيها العربي، عن طريق المشاركة الفاعلة في إعادة إعمار الدول العربية التي لحق بها الدمار والخراب في السنوات الأخيرة.
وخامسها: أن تأثير دول مجلس التعاون في المنابر الإقليمية والدولية سوف يتراجع، إذا ما بقيت تتدافع وتتنافر، كما يحصل في الوقت الحاضر.
لقد خسر العرب، بسبب المناكفة والمكايدة، منصب الإدارة العامة ليونسكو، وكان طوع بنانهم، لكن الخلاف جعله ينسلّ من بين أصابعهم.
هذه النتائج كلها دروس قاسية. وستكون الأيام القادمات أصعب وأشد امتحاناً لنا. فما هي عدتنا لها؟
إما مصالحةُ شاملة، وهو الأسلوب الأفضل، أو بقاء الحال الراهن على حاله.
اقــرأ أيضاً
وقد أدى القرار، كما توقع محللون كثيرون، إلى مزيد من المشكلات، فالدبلوماسية التي تخلط بين القوة والكبرياء لا تقبل بفشل مشروعها، ما يدفعها إلى اتخاذ إجراءات أخرى، إما على الجبهة نفسها، أو على جبهات أخرى.
وإذا طرحنا فكرة التنابز والغيرة، والأسباب الشخصية، جانباً، فإننا سنفترض أن إعلان الحصار على قطر بهذا الحجم، وبهذا الشكل المفاجئ، كان له غاية مدروسة، وهي دفع قطر إلى رفع الراية البيضاء خيفةً ورهبة من العواقب، والقبول بمعظم، إن لم يكن كل، المطالب الثلاثة عشر التي قدمت إليها.
ولكنْ لقطر أصدقاء ومناصرون، بعضهم مثل تركيا وفرنسا وألمانيا. أما باقي الدول في الاتحاد الأوروبي فلم ترَ عدلاً وإنصافاً في استهداف قطر بهذا الأسلوب. ودول أخرى لم تكن صديقة لقطر، بل تجمعها بها علاقات مصالح حذرة، مثل إيران التي سارعت إلى الوقوف مع قطر، على أساس أن قطر الآن في حالة استعداءٍ من السعودية، خصم إيران وعدوها، ما جعل قطر في عين إيران "عدو عدوي صديقي".
واستوعبت قطر الصدمة الأولى، ووفر هذا الصمود والاستيعاب فرصاً جديدة لدولٍ كانت بانتظار هذه الفرص، فإيران فتحت الأبواب على التعامل التجاري والمالي مع قطر، واستفادت سلطنة عُمان ودولة الكويت من موقفهما المحايد، حيث فتحتا حدودهما وأجواءهما ومياههما الإقليمية أمام قطر. أما تركيا فأرسلت جنودها للدفاع عن قطر ضد أي حملة عسكرية قد تستهدفها، ووسعت تجارتها وخدماتها المباعة لقطر. وكذلك استفادت روسيا، وأوروبا وحتى الولايات المتحدة.
والآن، كما توقعنا سابقاً، لم تفلح الأزمة مع قطر في منح الحلفاء في حرب اليمن ورقة تفاوض إضافية حيال إيران. وهذا أدى، بالطبع، إلى اتخاذ الدول المحاصرة إجراءات أمنية داخلية لمحاربة الفساد واحتواء آثاره. ولذلك أوقف أمراء ووزراء ورجال أعمال كبار، وأودعوا رهن الإقامة الجبرية، بعد اتهامهم بالفساد والرشوة، والانتفاع من مواقعهم وعلاقاتهم لتحقيق مكاسب شخصية.
وبعد هذه القرارات، كان لا بد أن تُسلب إيران ورقة تفاوضية، بدل التي كسبتها في تمتين علاقاتها مع قطر. وجاءت أزمة استقالة الحريري، والتي وحّدت اللبنانيين، بمختلف طوائفهم ومذاهبهم وانتماءاتهم الحزبية والسياسية، صفاً واحداً ضد قرار استقالة الشيخ سعد الحريري من رئاسة الحكومة من الرياض وفيها.
ومع تمتع دولٍ، مثل السعودية، برصيد عالٍ من القبول والشعبية في لبنان، فإن ذلك لم يشفع لها، عندما اعتقد اللبنانيون أن رئيس وزرائهم رهن الإقامة الجبرية، على الرغم من أن الرئيس الحريري سعودي الجنسية، كما صرّح بذلك وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير.
إذن، نحن في الخليج أمام مشكلات كبيرة. الأولى حرب اليمن، والثانية تدهور العلاقات مع إيران، وثالثها حصار قطر، ورابعها الإجراءات الداخلية في السعودية وفي دولة الإمارات. وخامسها وأقربها إلى الحل استقالة رئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، وما قد يتبعها من تطوراتٍ على الساحتين، اللبنانية والخليجية.
وتنقل الإشاعات كذلك عدم رضا الديوان الملكي الأردني عما يُشاع عن حلٍ للقضية الفلسطينية باتفاقٍ أشرف عليه من الجانب الأميركي، جاريد كوشنر، زوج ابنة الرئيس دونالد ترامب، والأمير محمد بن سلمان من المملكة العربية السعودية، خصوصاً في ظل ما يجري تناقله على لسان الساسة الإسرائيليين من تفاهم عميق وتنسيق كبيرين مع دول الحصار وإسرائيل.
وإذا صحت هذه الإشاعات، فلا شك أن من حق الأردن أن يعتب ويلوم، فالأردن هو الأقرب إلى القضية الفلسطينية، وهو الأكثر تأثراً بنتائج أي سلام يُتفق عليه بين فلسطين وإسرائيل.
وأما بالنسبة للرئيس محمود عباس، والذي زار المملكة العربية السعودية، فتقول الشائعات إنه طُلب منه في أثناء زيارته الرياض التوقيع على مشروع كوشنر الذي يعطي إسرائيل القدس والسيادة والحدود والمستوطنات والأمن في مقابل حكم ذاتي على طراز الكانتونات في المدن والبلدات الفلسطينية. وهذا حل غير مقبول أردنياً أو فلسطينياً.
قد تكون كل هذه الوقائع شائعات على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، ونفخت فيها هذه حتى المبالغة المفرطة، ولكن عدم الرد عليها لا يقلل من مصداقيتها، بل يجعلها أكثر قبولاً لدى الجماهير العربية. وقد صار العرب يتوقعون حدوث انفجاراتٍ كبيرة، وتحولات خطيرة في المنطقة، وكأنه كتب عليها ألا تقارب على الخروج من أزمةٍ إلا مقابل انفجار أزماتٍ أخرى أكبر وأشد.
فما هي الدروس المستفادة مما جرى؟
أولها: أن أمن أي دولة في الخليج، أو دولة مجاورة لمنظومة الخليج، يؤثر تأثيراً مباشراً على أمن الخليج كله في البداية، وأمن المشرق العربي ومصر لاحقاً. ولذلك، لا مجال للتفريط في أمن أي دولة. ألم نتعلم من الدروس السابقة؟
وثانيها: أن دول الخليج التي شكت أحياناً من بطء إجراءات التكامل الاقتصادي فيها كانت فعلياً تنعم بعلاقات اقتصادية متميزة في كل المجالات، سواء التجارية أم الخدمية أم الاستثمارية فيها. وكانت سوقاً كبيرة واعدة. ولكن أزمة قطر بينت أن كل هذه الفوائد قد تتحوّل إلى تحدياتٍ عندما تنفصم العرى. فالتجارة والاستثمارات بدأت تتحول عن التبادل بين دول الخليج إلى دول أخرى في المنطقة وفي العالم.
وثالثها: أن البرامج الكبرى المعوّل عليها للمرور بمرحلة التحول الاقتصادي من دول ريعية إلى دول منتجة متعدّدة المصادر والنشاطات ومتنوعة الإنتاج أصبحت رهينةً للحروب والخلافات السياسية داخل المنطقة، وبين المنطقة الخليجية ودول أخرى. وإن أي تنوع اقتصادي مستهدف قد ينطوي على تكاليف إضافية باهظة.
ورابعها: هدر الأموال بمقادير كبيرة قد تهدّد جبل الأرصدة المالية بالذوبان السريع، ما يحرم دول الخليج من تمتين مواقفها مع محطيها العربي، عن طريق المشاركة الفاعلة في إعادة إعمار الدول العربية التي لحق بها الدمار والخراب في السنوات الأخيرة.
وخامسها: أن تأثير دول مجلس التعاون في المنابر الإقليمية والدولية سوف يتراجع، إذا ما بقيت تتدافع وتتنافر، كما يحصل في الوقت الحاضر.
لقد خسر العرب، بسبب المناكفة والمكايدة، منصب الإدارة العامة ليونسكو، وكان طوع بنانهم، لكن الخلاف جعله ينسلّ من بين أصابعهم.
هذه النتائج كلها دروس قاسية. وستكون الأيام القادمات أصعب وأشد امتحاناً لنا. فما هي عدتنا لها؟
إما مصالحةُ شاملة، وهو الأسلوب الأفضل، أو بقاء الحال الراهن على حاله.