في أوائل التسعينيات، وخلال سنوات الدراسة بالجامعة، عملت لفترة بمركز لخدمة رجال الأعمال business center، وكانت هذه المراكز عبارة عن مكتب صغير، غالباً بالإيجار، جهاز كمبيوتر، طابعة، فاكس، وخط تليفون دولي، ثم تُعلق لافتة على باب المكتب ويُكتب عليها "مركز خدمة رجال الأعمال".
وراجت هذه المراكز بصورة كبيرة، وحققت لأصحابها أرباحاً كثيرة. ففي هذه الفترة لم تكن هناك تليفونات محمولة من النوع الذي يقرب البعيد، ولم تكن هناك خطوط دولية في أغلب البيوت، وكانت تكلفة شراء جهاز كمبيوتر أو طابعة أو فاكس مرتفعة جداً، للدرجة التي تصعب من وجودها في أغلب البيوت المصرية.
تطورت الأمور بعد ذلك بصورة سريعة، فانخفضت تكلفة شراء جهاز الكمبيوتر والطابعة، وتواجدا في أغلب البيوت، وظهر البريد الالكتروني واستغنينا عن الفاكس في أغلب الأحوال، ثم ظهر التليفون المحمول، وتطبيقاته السحرية، التي سمحت بالتواصل – صوتاً وصورة – على مسافة آلاف الأميال، وبدون تكلفة تذكر.
وانهار بعد ذلك "بيزنيس البيزنيس سنتر"، وأغلق أصحاب تلك المراكز محالهم، وتوجه أغلبهم نحو مشاريع أخرى.
وكان الدرس الأساسي الذي أدركه البعض وقتها، أن التقنيات الحديثة، ورغم أنها تأتي بفوائد جمة، إلا أن ذلك يكون في أغلب الأحيان على حساب بعض القطاعات/الصناعات، وهو الدرس الذي استوعبه الغرب قبلنا، مما حدا بالشركات الكبيرة إلى قضاء الكثير من الوقت في تصور ما ستأتي به التطورات التقنية مستقبلاً، وكيفية التعامل معها، حتى لا يصيبهم ما أصاب مراكز خدمة رجال الأعمال.
وشهدت البشرية قفزات تقنية كبيرة أثرت في حياة الكثيرين، فمنهم شقيٌ وسعيد. ورغم التطورات القوية التي شهدها العقدان الأخيران في مجال تقنية الاتصالات، وما نتج عنها من تطبيقات متقدمة، فإن العالم يترقب الآن تقنية جديدة، يتوقع أن يفوق تأثيرها تأثير الكثير من التطورات السابقة، وهي التقنية التي يطلق عليها "ثورة السيارات ذاتية القيادة".
في عام 2009، بدأت شركة غوغل العملاقة أبحاثاً لتطوير صناعة السيارات، ثم انبثقت عنها في عام 2016 شركة مستقلة اسمها وايمو Waymo، تقول عنها الشركة الأم ألفابيت Alphabet، التي تضم بين جنباتها حالياً الشركتين غوغل ووايمو وغيرهما، أنها شركة القيادة الذاتية التي تهدف لجعل التنقل آمناً وسهلاً للناس والأشياء.
وتعمل الشركة الجديدة حالياً على جعل السيارات ذاتية القيادة متاحة للتجربة العملية قريباً، وربما قبل نهاية 2017.
وتتوقع الشركة أن تكون بداية التجارب في شوارع مدينة تشاندلر بولاية أريزونا، والمعروفة بشوارعها الواسعة والممهدة، وحيث تنخفض نسبة المشاة، كما يوفر المناخ القانوني والطقس المعتدل هناك فرصة جيدة لتجربة تلك السيارات.
ولا يخفى على أحد التأثير السلبي لهذا الاختراع العجيب، كونه يهدد الملايين بفقدان وظائفهم. ولا يصح قصر هذا التهديد على فئة سائقي السيارات الخاصة، والتاكسيات، والأتوبيسات، ووسائل النقل العام والخاص، وعربات نقل البضائع، والوجبات السريعة والبطيئة، والبقالة والخضروات والفاكهة فقط، ولكن يشمل التهديد أيضاً، بعد سيطرة السيارات ذاتية القيادة، والتي توصف بأنها أكثر أماناً من العادية، رجال المرور، وشركات التأمين على السيارات، وورش إصلاح السيارات، ومحلات بيع قطع الغيار، وغيرها.
ويجب ألا نغفل أن العمل بقيادة السيارات هو الاختيار المفضل للملايين ممن يريدون تحسين دخولهم، أو ممن فقدوا وظائفهم من الطبقة المتوسطة، في كل أنحاء المعمورة، كما أنه ستكون هناك تحويلات ضخمة في الأرباح بين الصناعات المختلفة. وأكاد لا أرى قطاعاً لن تمسه التطورات في صناعة تلك السيارات.
وخلال الأسبوع الماضي، حضرت محاضرة في إحدى الشركات الكبرى لإدارة الأصول، وكان موضوع المحاضرة عن سوق العقارات التجارية في مدينة نيويورك، إلا أن الحديث دار في أغلبه حول تأثير التطورات الحادثة في صناعة السيارات ذاتية القيادة على سوق العقارات، وتوفر المساحات المتاحة للإيجار التجاري، والتقلبات في أسعار الإيجار، التجاري والسكني، وأيضاً تأثر الاستثمار في ذلك القطاع، ومن ثم تمويل البنوك وشركات الاستثمار للشركات العاملة في هذا المجال، وأيضاً للأفراد المشتغلين به.
وقرب نهاية المحاضرة تحدى المحاضر المستمعين إن كانوا في ريبٍ مما يقول أن يأتوا بصناعةٍ لن تتأثر، ولم يستطع أحد أن يثبت وجود صناعة واحدة لن ينالها نصيب من صدمات التغيير، إيجابيةً كانت أم سلبية.
وختم المحاضر كلامه بقوله أنه رغم التأثيرات السلبية على بعض القطاعات، فإن المركبات ذاتية القيادة، والتي ستسير بغير قائد، ستتمتع بتقنيات حديثة مبهرة، تمكنها من كشف المشكلات التي لا يكتشفها، أو بالأحرى لا يعترف بها، القائد البشري، كما تتوفر لها أنظمة الكبح الأوتوماتيكية، ولسوف تجعل الشوارع أكثر أماناً، وستختفي مشكلات فساد قادة المركبات التي نعاني منها حالياً، ولن تكون هناك محاباة لبعض الطبقات أو الانتماءات على حساب البعض الآخر في الجلوس في المقاعد الأمامية في تلك المركبات. كما أن الموارد المتاحة لهؤلاء القادة سيتم توجيهها إلى ما يحقق أفضل النتائج، مع البعد عن كل ما يعد هدراً لها.
وأضاف المحاضر أن التكنولوجيا المطبقة ستسمح بتوجيه تلك المركبات لسلوك أفضل الطرق للوصول إلى أهدافها، مع تجنب الطرق التي توجد بها عقبات.
وفي كل الأحوال فإن ثقة العامة في القائد البشري تقل مع ثبوت تورطه في حوادث أليمة سابقة. ولربما يطمئن من في المركبة حينئذٍ إلى التزامها بكل علامات الطريق، واستعدادها للتأقلم مع التغيرات التي تمليها الظروف، ودون وجود أية خروقات قانونية. كما أثبتت الدراسات إمكانية برمجة تلك المركبات على احترام رأي الأغلبية في المواقف التي تحتاج إلى الاختيار بين عدة بدائل.
فهل نطمع في الاستغناء عن القادة في بلادنا، والاستعانة بفكرة المركبات ذاتية القيادة نظراً لعدم توفر بديل كفء حالياً، خاصة مع انخفاض عدد من سيفقدون وظائفهم جراء ذلك التوجه؟!
اقــرأ أيضاً
وراجت هذه المراكز بصورة كبيرة، وحققت لأصحابها أرباحاً كثيرة. ففي هذه الفترة لم تكن هناك تليفونات محمولة من النوع الذي يقرب البعيد، ولم تكن هناك خطوط دولية في أغلب البيوت، وكانت تكلفة شراء جهاز كمبيوتر أو طابعة أو فاكس مرتفعة جداً، للدرجة التي تصعب من وجودها في أغلب البيوت المصرية.
تطورت الأمور بعد ذلك بصورة سريعة، فانخفضت تكلفة شراء جهاز الكمبيوتر والطابعة، وتواجدا في أغلب البيوت، وظهر البريد الالكتروني واستغنينا عن الفاكس في أغلب الأحوال، ثم ظهر التليفون المحمول، وتطبيقاته السحرية، التي سمحت بالتواصل – صوتاً وصورة – على مسافة آلاف الأميال، وبدون تكلفة تذكر.
وانهار بعد ذلك "بيزنيس البيزنيس سنتر"، وأغلق أصحاب تلك المراكز محالهم، وتوجه أغلبهم نحو مشاريع أخرى.
وكان الدرس الأساسي الذي أدركه البعض وقتها، أن التقنيات الحديثة، ورغم أنها تأتي بفوائد جمة، إلا أن ذلك يكون في أغلب الأحيان على حساب بعض القطاعات/الصناعات، وهو الدرس الذي استوعبه الغرب قبلنا، مما حدا بالشركات الكبيرة إلى قضاء الكثير من الوقت في تصور ما ستأتي به التطورات التقنية مستقبلاً، وكيفية التعامل معها، حتى لا يصيبهم ما أصاب مراكز خدمة رجال الأعمال.
وشهدت البشرية قفزات تقنية كبيرة أثرت في حياة الكثيرين، فمنهم شقيٌ وسعيد. ورغم التطورات القوية التي شهدها العقدان الأخيران في مجال تقنية الاتصالات، وما نتج عنها من تطبيقات متقدمة، فإن العالم يترقب الآن تقنية جديدة، يتوقع أن يفوق تأثيرها تأثير الكثير من التطورات السابقة، وهي التقنية التي يطلق عليها "ثورة السيارات ذاتية القيادة".
في عام 2009، بدأت شركة غوغل العملاقة أبحاثاً لتطوير صناعة السيارات، ثم انبثقت عنها في عام 2016 شركة مستقلة اسمها وايمو Waymo، تقول عنها الشركة الأم ألفابيت Alphabet، التي تضم بين جنباتها حالياً الشركتين غوغل ووايمو وغيرهما، أنها شركة القيادة الذاتية التي تهدف لجعل التنقل آمناً وسهلاً للناس والأشياء.
وتعمل الشركة الجديدة حالياً على جعل السيارات ذاتية القيادة متاحة للتجربة العملية قريباً، وربما قبل نهاية 2017.
وتتوقع الشركة أن تكون بداية التجارب في شوارع مدينة تشاندلر بولاية أريزونا، والمعروفة بشوارعها الواسعة والممهدة، وحيث تنخفض نسبة المشاة، كما يوفر المناخ القانوني والطقس المعتدل هناك فرصة جيدة لتجربة تلك السيارات.
ولا يخفى على أحد التأثير السلبي لهذا الاختراع العجيب، كونه يهدد الملايين بفقدان وظائفهم. ولا يصح قصر هذا التهديد على فئة سائقي السيارات الخاصة، والتاكسيات، والأتوبيسات، ووسائل النقل العام والخاص، وعربات نقل البضائع، والوجبات السريعة والبطيئة، والبقالة والخضروات والفاكهة فقط، ولكن يشمل التهديد أيضاً، بعد سيطرة السيارات ذاتية القيادة، والتي توصف بأنها أكثر أماناً من العادية، رجال المرور، وشركات التأمين على السيارات، وورش إصلاح السيارات، ومحلات بيع قطع الغيار، وغيرها.
ويجب ألا نغفل أن العمل بقيادة السيارات هو الاختيار المفضل للملايين ممن يريدون تحسين دخولهم، أو ممن فقدوا وظائفهم من الطبقة المتوسطة، في كل أنحاء المعمورة، كما أنه ستكون هناك تحويلات ضخمة في الأرباح بين الصناعات المختلفة. وأكاد لا أرى قطاعاً لن تمسه التطورات في صناعة تلك السيارات.
وخلال الأسبوع الماضي، حضرت محاضرة في إحدى الشركات الكبرى لإدارة الأصول، وكان موضوع المحاضرة عن سوق العقارات التجارية في مدينة نيويورك، إلا أن الحديث دار في أغلبه حول تأثير التطورات الحادثة في صناعة السيارات ذاتية القيادة على سوق العقارات، وتوفر المساحات المتاحة للإيجار التجاري، والتقلبات في أسعار الإيجار، التجاري والسكني، وأيضاً تأثر الاستثمار في ذلك القطاع، ومن ثم تمويل البنوك وشركات الاستثمار للشركات العاملة في هذا المجال، وأيضاً للأفراد المشتغلين به.
وقرب نهاية المحاضرة تحدى المحاضر المستمعين إن كانوا في ريبٍ مما يقول أن يأتوا بصناعةٍ لن تتأثر، ولم يستطع أحد أن يثبت وجود صناعة واحدة لن ينالها نصيب من صدمات التغيير، إيجابيةً كانت أم سلبية.
وختم المحاضر كلامه بقوله أنه رغم التأثيرات السلبية على بعض القطاعات، فإن المركبات ذاتية القيادة، والتي ستسير بغير قائد، ستتمتع بتقنيات حديثة مبهرة، تمكنها من كشف المشكلات التي لا يكتشفها، أو بالأحرى لا يعترف بها، القائد البشري، كما تتوفر لها أنظمة الكبح الأوتوماتيكية، ولسوف تجعل الشوارع أكثر أماناً، وستختفي مشكلات فساد قادة المركبات التي نعاني منها حالياً، ولن تكون هناك محاباة لبعض الطبقات أو الانتماءات على حساب البعض الآخر في الجلوس في المقاعد الأمامية في تلك المركبات. كما أن الموارد المتاحة لهؤلاء القادة سيتم توجيهها إلى ما يحقق أفضل النتائج، مع البعد عن كل ما يعد هدراً لها.
وأضاف المحاضر أن التكنولوجيا المطبقة ستسمح بتوجيه تلك المركبات لسلوك أفضل الطرق للوصول إلى أهدافها، مع تجنب الطرق التي توجد بها عقبات.
وفي كل الأحوال فإن ثقة العامة في القائد البشري تقل مع ثبوت تورطه في حوادث أليمة سابقة. ولربما يطمئن من في المركبة حينئذٍ إلى التزامها بكل علامات الطريق، واستعدادها للتأقلم مع التغيرات التي تمليها الظروف، ودون وجود أية خروقات قانونية. كما أثبتت الدراسات إمكانية برمجة تلك المركبات على احترام رأي الأغلبية في المواقف التي تحتاج إلى الاختيار بين عدة بدائل.
فهل نطمع في الاستغناء عن القادة في بلادنا، والاستعانة بفكرة المركبات ذاتية القيادة نظراً لعدم توفر بديل كفء حالياً، خاصة مع انخفاض عدد من سيفقدون وظائفهم جراء ذلك التوجه؟!