تعرّضت مساحات واسعة من الأراضي الزراعية في العراق خلال الفترة الأخيرة، إلى عمليات تجريف متعمّدة بغرض تحويلها إلى أراضٍ سكنية والتربح من بيعها بأسعار مرتفعة.
وقال مسؤولون عراقيون في وزارتي الزراعة والعدل إن ما لا يقل عن 10 آلاف دونم (10 ملايين متر مربع) من الأراضي الزراعية تم تجريفها بشكل كامل منذ مطلع العام الجاري، فيما كشف برلمانيون لـ"العربي الجديد" عن تورط فصائل مسلحة وأحزاب ومسؤولين في حملة إزالة مساحات شاسعة من بساتين النخيل.
وحسب المسؤولين، الذين رفضوا ذكر أسمائهم، تقع غالبية عمليات التجريف في بغداد والبصرة وبابل وديالى وصلاح الدين، وجرى التلاعب بالأراضي وتحويلها من زراعية إلى سكنية، ومن ثم توزيعها كقطع أرض مقابل مبالغ مالية متفاوتة.
وأكد مسؤول بارز في وزارة الزراعة العراقية أن ما لا يقل عن 50% من المساحات التي تم تجريفها عبارة عن بساتين نخيل.
وأضاف المسؤول، الذي رفض ذكر اسمه، أن عمليات حرائق مفتعلة أو تجريف بالجرافات أو رش الأراضي الزراعية بمواد كيميائية تؤدي إلى هلاك الأشجار والنخيل فيها.
ولفت إلى أن جزءاً كبيراً منها تم تحويله من زراعي إلى سكني، بعد تقطيعها إلى أرض بمساحة تراوح بين 200 و300 متر مربع وبيعها بأسعار مرتفعة مقارنة بأسعار الأراضي الزراعية.
وأوضح أن تلك العمليات أدخلت مبالغ ضخمة إلى جيوب القائمين على إزالة النخيل وبساتين الحمضيات تقدر بمليارات الدنانير، إذ تُباع قطعة الأرض الواحدة بمساحة 200 متر مربع بما لا يقل عن 50 مليون دينار (نحو 40 ألف دولار)، مشيرا إلى تورط جهات سياسية وقادة عسكريين بالجيش وفصائل مسلحة في الأمر.
وحول عدد النخيل الذي تم قطعه خلال هذا العام حتى الآن قال: "لا يمكن إحصاؤه، لكن نتحدث عن أعداد هائلة أكثر من العدد الذي قطع في العام الماضي بالتأكيد".
في المقابل تشير تسريبات من وزارة العدل العراقية إلى تقديم هيئة النزاهة ملفات تُثبت عمليات تلاعب بالأراضي الزراعية وجرائم حرق متعمدة وإتلاف لها، بغية تحويلها إلى سكنية وبيعها.
ووفقاً للتسريبات ذاتها فإن جميع البساتين التي وقعت ضحية عمليات التجريف تلك تعتبر عامة ومملوكة للدولة وليست خاصة.
ومن أبرز البساتين التي تم تجريفها الدورة والجادرية جنوبي بغداد، والتاجي والطارمية (شمال)، والرضوانية (غرب)، بالإضافة إلى بساتين ضخمة في البصرة وديالى وبابل وصلاح الدين ومحافظات أخرى مثل نينوى وكركوك.
في هذه الأثناء، قال عضو لجنة الزراعة في البرلمان علي البديري، لـ"العربي الجديد"، إنّ "هناك جهات متنفذة في الحكومة، ممّا يعرف بالدولة العميقة وجهات مسلحة غير منضبطة، تُسيطر على مساحات واسعة من بساتين النخيل، وتعمل على تجريفها وبيع الأراضي من دون أي ضوابط"، مؤكداً أنّ "الجهات تتجاهل خطورة هذا الموضوع، وتغضّ النظر عن أكبر ثروة للعراق، ذات البعد التاريخي".
وأكد البديري أنّ "هذا التوجه للقضاء على بساتين النخيل يدخل في خانة الفساد والمساومات، وللأسف الشديد يتم بيع الأراضي بعد تجريف نخيلها، وهناك مبالغ مالية تذهب إلى جهات أمنية ومسؤولين من أجل غض النظر وعدم محاسبة المتسببين في هذه الظاهرة الخطيرة".
وقال نائب في لجنة الزراعة بالبرلمان، طلب عدم ذكر اسمه، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنّ "بعض دول الجوار كإيران تدفع باتجاه تجريف النخيل في العراق، كونه يمتلك أجود وأفخر أنواع التمور الذي أصبح اليوم محاصراً من قبل التمور الإيرانية التي غزت الأسواق المحلية"، مبيناً أنّ "الفصائل المسلحة والمتغلغلة داخل مفاصل الدولة تقوم ببيع بساتين النخيل بسعر زهيد، بهدف تجريفها".
وأكد أنّ "التجريف بدأ من البصرة حتى وصل إلى أطراف بغداد"، مشددا "إذا بقي الحال على ما هو عليه ستندثر هذه الثروة الزراعية التي يمتلكها العراق منذ عصور، وستختفي بدوافع وأجندات جائرة".
من جهته، أكد النائب البرلماني وعضو لجنة الزراعة، رعد الدهلكي، لـ"العربي الجديد"، أنّه "من الواضح جداً سيطرة جهات متنفذة لا يعنيها اقتصاد البلد، تسعى لتحقيق منافع لها ولأحزابها، تعمل على تجريف البساتين وتحويلها إلى قطع أراضٍ وبيعها حتى وإن كانت تلك الأراضي من أراضي التجاوز وغير المملوكة لجهة معينة".
وأكد أنّ "ديالى ومناطق في حزام بغداد وغيرها، شهدت تجريف بساتين عمرها آلاف السنين"، معتبراً ذلك "اعتداءً على ماضي وتاريخ العراق، إذ إنّ هناك حملة منظمة لتغيير معالم البلاد الزراعية، وهذا إجحاف وظلم لمستقبل الأجيال المقبلة".
وحذّر من أن "تكون الهجمة المقبلة على الثروة الحيوانية"، داعياً الحكومة إلى أن "تعي هذا الخطر".
وينتقد مختصون بالزراعة الإهمال الحكومي للثروة الحيوية في البلاد، وتحويل العراق إلى بلد مستورد لها. وقال الخبير الزراعي خالد الراوي، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الدولة لا تقدم دعماً مناسباً للمزارعين، فهم يجاهدون لتلقيح النخيل وجمع التمور، لكن التجار يبيعونها لدولة الإمارات بطريقة تقليدية وبأسعار زهيدة لا تضاهي جهودهم، في الوقت الذي بتنا نستورد فيه التمور من الخارج".
وأكد الراوي أنّ "ذلك دفع أغلب المزارعين إلى الاتجاه إلى الوظائف الحكومية والتطوع في الجيش والشرطة، هرباً من الواقع الزراعي المؤلم"، داعياً إلى "ضرورة فرض رسوم على التمور المستوردة لرفع سعرها، وتشجيع المزارع العراقي لكيلا تخرج العملة الصعبة إلى خارج البلد".
وكانت أعداد النخيل في العراق، وفق إحصائيات أجريت في السبعينيات، تصل إلى حوالي 50 مليون نخلة، إلا أنّ الحروب والظروف الصعبة والحصار الاقتصادي في تسعينيات القرن الماضي تسببت في هبوط العدد إلى حوالي 30 مليون نخلة حسب إحصاء تقريبي أجري عام 2002، واستمر تناقص أعداد النخيل حتى وصل إلى 16 مليون نخلة فقط في عموم البلاد، وفق إحصاء عام 2014.
ويحوي العراق أكثر من 650 صنفاً من النخيل (التمور) من حوالي 2000 صنف من النخيل في العالم، ويعدّ العراق أكثر بلد يحتوي على أصناف نخيل مقارنة مع بقية البلدان، وينتشر عدد من الأصناف المحلية النادرة فيه، منها البرحي، والحلاوي والساير، والأشرسي، والديري، وغيرها، وتغطي مزارع النخيل مساحات واسعة من البلاد.