منذ اندلاع حراك الشارع في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، يكون الدولار قد ارتفع أمام الليرة اللبنانية بنسبة 113%، انطلاقاً من أن سعره قبل الحراك المذكور كان مستقراً منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين على هامش أقصاه 1515 ليرة، بينما أنهى الأسبوع المنصرم على سعر تجاوز 3200 ليرة، مسجلاً يوم الجمعة 3225 ليرة، مع أنه عاد وانحسر قليلاً في عطلة نهاية الأسبوع، مسجلاً 3150 ليرة.
ولبنان لا يُعدّ بلداً منتجاً لما يستهلكه من الحاجيات والأغذية، إلا ما قلّ وندر، بدليل أنه قبل أزمة شحّ الدولار كان يصدّر بنحو 3 مليارات دولار، بينما كان يستورد بضائع ومواد أولية من شتى الأنواع والصنوف ومن دول كثيرة حول العالم، بما تصل قيمته إلى نحو 18 مليار دولار، أي أنه كان يستورد عملياً 6 أضعاف ما كان يصدّره إلى شركائه التجاريين من عرب وأجانب مجتمعين.
وهذا ما انعكس خللاً كبيراً في ميزان البلد التجاري، وأنتج عجزاً هائلاً في ميزان المدفوعات كان واحداً من الأسباب الرئيسية التي سحبت سيولة الدولار من شرايين الاقتصاد الوطني، والتهمت تقريباً نصف احتياطي العملات الصعبة لدى "مصرف لبنان" المركزي، بهبوطه تدريجاً من نحو 40 مليار دولار إلى نحو 20 ملياراً حالياً، إذا صحّت التقديرات الرائجة، علماً أن بعض التقارير الدولية كانت حذرت سابقاً من أن الاحتياطي القابل للتسييل والتصرّف لدى البنك المركزي يقل عن 10 مليارات دولار في أحسن الأحوال.
الوضع الحرج الذي بلغه احتياطي "المركزي" من جهة، و"تهريب" مليارات من الدولارات لا تزال قيمتها غير محددة تماماً من لبنان إلى مصارف خارجية، ولا سيما في البنوك السويسرية، من جهة ثانية، فضحا تقارير "جمعية مصارف لبنان" التي كانت تتحدث عن ودائع تجاوزت 170 مليار دولار منتصف عام 2019، أي مع بداية بروز ملامح أزمة نقص الدولار الأميركي في السوق المحلية، ليتبيّن لاحقاً أن البنوك اضطرت إلى فرض قيود مشدّدة على سحوبات الدولار والليرة اللبنانية على السواء، في تدابير مخالفة للقوانين والدستور، بحجة الظروف الاستثنائية.
هذه القيود على سحوبات الدولار ما كان منها إلا أن أنعشت "السوق السوداء" المتمثلة بأكثر من 300 صرّاف غير مرخّص، يقابله عدد مماثل تقريباً في السوق الرسمية، أي مؤسسات الصرافة المرخصة من المصرف المركزي، حيث بدأ الدولار رحلة صعوده تدريجاً بعدما امتنع "مصرف لبنان" عن ضخ السيولة اللازمة لتلبية الطلب على الدولار والدفاع عن ثبات سعر صرف الليرة البالغ متوسّطة 1507.5 ليرات وهو سعر لا يزال قائماً منذ عام 1992 تقريباً، لكنه اليوم أصبح سعراً وهمياً صورياً غير معمول به إلا في ذهن السلطة النقدية وموقعها الإلكتروني.
التسيّب الذي شهدته سوق الصرّافين دفع باتجاه تنفيذ حملات دهم وتسطير محاضر ضبط، وصولاً إلى الإغلاق والختم بالشمع الأحمر، لكن دون جدوى، لكل من كان يخالف قراراً صدر، بالتنسيق مع "مصرف لبنان"، عن "نقابة الصرّافين" التي تضمّ في عضويتها جميع الصرّافين المرخصين من "المركزي" الذي لم يجد حاكمه رياض سلامة بُدّاً في نهاية المطاف من إصدار تعميم ملزم من عنده باعتماد سقف 2000 ليرة للدولار، قبل أن يُضطر إلى الاعتراف لاحقاً بأن السعر الرسمي، كما سقف الألفي ليرة، غير قابلين للتداول على أرض الواقع، ليتوافق مع "جمعية المصارف" على سعر 2600 ليرة في التعامل مع الودائع.
إلا أن هذه الإجراءات مجتمعة لم تُجدِ نفعاً، وواصل الدولار مساره التصاعدي حتى بلغ مستويات باتت تُنذر بالأسوأ، حيث كثُر الحديث عن 3 احتمالات:
- الأول، صدور قرار سياسي على أرفع المستويات باعتماد 3 آلاف ليرة ضمن سياسة تثبيت سعر صرف الدولار عند مستوى جديد.
- الثاني بلوغ سعر الدولار 5 آلاف ليرة في وقت ليس ببعيد تبعاً لتفلّته من أي ضوابط، كما أثبتت تجربة مكافحة السوق السوداء على مدى أشهر.
- الثالث أن تكون الليرة متروكة لقدرها عمداً تمهيداً لاعتماد سياسة تحرير سعر الصرف أو التعويم بعبارة أُخرى وهو الاحتمال الأكثر سوءاً إن حصل، باعتبار أن وضع البلد المتمنّع عن سداد ديونه والغارق في ملفات فساد وإفساد وجبل ديون كبير يعاني تدهوراً كبيراً في نمو ناتجه المحلي الإجمالي، كلها عوامل تُنبئ بمزيد من الوهن لعملته الوطنية التي لا تجد ما ترتكن إليه من عوامل القوة، خصوصاً بعد الضربة القوية التي تعرّض لها القطاع المصرفي الذي لطالما وُصف بأنه "العمود الفقري" للاقتصاد اللبناني وتمويل احتياجات الدولة والقطاع الخاص.
فوضى الغلاء الفاحش
وسط هذه السيناريوهات الحالية والمستقبلية المظلمة التي لا يوجد في آخر نفقها نقطة مضيئة إلا احتمال استخراج الغاز، وربما النفط لاحقاً، مضافاً إليه لجم الفساد وربما استرداد الأموال المنهوبة أو بعضاً منها، يبدو المستهلكون متروكين لقدرهم، كما الليرة، في أسواق استهلاكية فاحشة الغلاء لامس ارتفاع الأسعار فيها الضعفين أحياناً، وتجاوز هذه المستويات في حالات أُخرى.
ثمة مشكلة بارزة تتمثل في أن المتاجر الصغيرة في الأحياء التي كثيراً ما كانت تبيع بالدين توخياً لسداد فواتيرها عند قبض الرواتب آخر الشهر، باتت تمتنع عن تزويد الزبائن بالحاجيات إلا مقابل "الكاش" لسببين كما يقول تجار: الأول، تقلبات الأسعار، إذ إن صاحب المتجر يشتري بالجملة بسعر معين ويبيع بهامش ربح أعلى بقليل، لكنه يُفاجأ عندما يشتري بضاعة مجدداً بأنه يتسلمها أعلى سعراً وبذلك يعتبر أنه يقع في خسارة مؤكدة إذا انتظر ليقبض من الزبون ثمن السلع بعد أسبوعين أو ثلاثة مثلاً.
والسبب الثاني أن كثيراً من الناس خسروا أعمالهم مع إقفال المؤسسات والجمود الاقتصادي الناتج من تدابير مكافحة انتشار فيروس كورونا المستجد، وما تفرضه من حجر منزلي تُستثنى منه بعض الوظائف وحالات الضرورة والطوارئ، وبالتالي يخشى صاحب المتجر من عدم قبض ثمن البضائع التي يبيعها لعائلات قد تعجز عن الدفع.
ويمكن القول إن ما يساهم في تعزيز استشراء الغلاء عاملان أساسيّان:
أولاً، أن المصارف التي لا تؤمّن تسهيلات ائتمانية دولارية للاستيراد بسعر الصرف الثابت (1515 ليرة)، ما خلا القمح والأدوية والوقود وفق آلية متفاهم عليها مع "مصرف لبنان" باعتبارها سلعاً حيوية، ما يُضطر مستوردي بقية السلع إلى اللجوء للصرّافين والخضوع لأسعار الصرف التي يطلبونها.
ولأن سعر الدولار تجاوز الضعفين، بدا واضحاً في المتاجر أن الأسعار ترتفع يومياً تقريباً بنسبة تجاوزت أيضاً الضعفين، لأن التكلفة على المستوردين زادت أكثر من 100%. وهذه الزيادة تُعدّ مبرّرة على ضوء التكاليف.
ثانياً، استغلال كبار المستوردين ضعف الرقابة الحكومية في الأسواق، وخصوصاً أصحاب الاحتكارات ممّن يملكون وكالات حصرية لعشرات آلاف السلع التي يحتاج إليها المواطنون، حيث يعمدون إلى تكديسها في مخازن للتحكّم بأسعارها مع أن كثيراً من السلع الغذائية المطروحة في الأسواق والمحالّ التجارية اقترب أجل انتهاء صلاحيتها، ما يعني أنها مستوردة قبل الأزمة بأشهر.