خلال الشهور الماضية، خاضت عدة دول عربية تجارب تحرير سعر صرف عملاتها، أو ما يعرف بالتعويم، بهدف احتواء أزمة عملة متفاقمة لديها، وتخفيف الضغط على العملة المحلية، والمساهمة في حل المشكلات الاقتصادية الناجمة عن زيادة كلفة الدين الخارجي والفجوات التمويلية وعجز الموازنات العامة.
لكن ورغم قرارات التعويم الصادمة للأسواق فقد واصلت العملات المحلية في هذه الدول تهاويها إلى مستويات قياسية، واجتاحت ظاهرة تحرير أسواق الصرف أو تعويم العملات دولاً عدة، أبرزها 8 عربية عام 2022 منها لبنان ومصر وسورية وليبيا واليمن والسودان، وهي الدول التي واجهت أزمة اقتصادية ومالية طاحنة ضغطت على الاسواق والاقتصاد والإيرادات العامة، وهناك توقعات بأن تمتد ظاهرة التعويم لبلدان عربية أخرى منها تونس والمغرب والجزائر.
يرصد هذا التقرير أبرز تجارب التعويم في الدول العربية، وانعكاساتها على سعر صرف العملات، وتداعياتها على اقتصادات تلك الدول، خاصة على التضخم والأوضاع المعيشية للمواطنين، وأعباء الدين الخارجي.
لكن قبل رصد تجارب تلك الدول، ماذا عن القرارات التي قامت بها وأدت إلى تهاوي قيمة العملات المحلية وحدوث قفزات في معدل التضخم وضعف القدرة الشرائية للمواطن.
ما المقصود بتعويم العملات؟
يقصد بتحرير سعر الصرف أو تعويم العملة التخلي عن تثبيت قيمتها أمام الدولار أو بقية العملات الأجنبية، وهي سياسات كانت تتبعها بعض الدول العربية وما زال يحافظ عليها البعض، خاصة الدول التي استنجدت بصندوق النقد الدولي للحصول على قروض منه.
في الاقتصادات القوية التي تضمن توافر النقد الأجنبي لوجود فائض في التبادل التجاري وسيولة دولارية، كالدول الخليجية المصدرة للنفط والغاز، يصبح تثبيت سعر الصرف أمراً مقبولاً.
أما الدول التي تواجه عجزاً في الميزان التجاري، ومن ثم نقصاً في موارد النقد الأجنبي وفجوات تمويلية، فإن تثبيت سعر الصرف يؤدي لاستنزاف مواردها لقيام البنك المركزي بضخ دائم للنقد الأجنبي، وخاصة الدولار، في الأسواق للحفاظ على سعر صرف ثابت.
ويتخذ التعويم أكثر من طريقة، فهناك التعويم المطلق الذي تترك فيه الدولة لآليات السوق والعرض والطلب التحكم في سعر الصرف، بينما التعويم المدار تتدخل البنوك المركزية جزئياً ضاخا للدولار في الأسواق إذا رأى أن سعر الصرف يشهد تذبذبات عنيفة وينخفض أو يرتفع بشكل كبير بما يؤثر سلباً في اقتصادها ويربك أسواق السلع والخدمات.
متى تلجأ الدول إلى تعويم عملتها؟
قد تلجأ الدول لتعويم عملتها المحلية مع زيادة الضغط عليها وتراجع الإيرادات الدولارية للدولة، أو الرغبة في تنشيط الاقتصاد المحلي عن طريق فتح السوق للمستثمرين الأجانب والحفاظ على مصالحهم، وإعادة التوازن في موازين الدولة التجارية والحد من العجز بها، كما تخفض الدول عملاتها بهدف زيادة موارد النقد الأجنبي من أنشطة رئيسية مثل الصادرات والاستثمارات الخارجية المباشرة والسياحة.
كما تلجأ لهذا الخيار الصعب عند الأزمات المالية، والأوضاع الاقتصادية غير المستقرة واضطرابات أسواق الصرف، بغية تخفيض نسبة العجز المالي، والحد من استنزاف النقد الأجنبي من الخزينة، لكن شريطة أن يكون مؤشر ناتجها المحلي قوياً.
ويقول الخبراء إن نتائج تعويم سعر العملة تتمثل في حدوث قفزات في أسعار السلع، خصوصا المستوردة، وارتفاع معدلات التضخم والغلاء، وتآكل القدرة الشرائية للمواطن، وزيادة معدلات الجوع والفقر والبطالة، وانهيار في قطاع الصناعة.
الجنيه المصري
وسمح البنك المركزي المصري بتعويم الجنيه 4 مرات منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وذلك باتفاق مع صندوق النقد الدولي، منها مرتان خلال 2022، مارس واكتوبر، ومرة بداية العام الحالي، واسفرت التعويمات الثلاثة التي جرت منذ مارس 2022 عن زيادة سعر الدولار مقابل الجنيه بنسبة تزيد عن 90%.
وكان العام 2022 قاسياً على الجنيه المصري، حيث بدأ الجنيه في التهاوي من 15.75 جنيه للدولار بداية العام، إلى 18 جنيه بعد قرار البنك المركزي بالتعويم الأول في مارس/آذار الماضي ليفقد 15% من قيمته، كما خضع لتعويم ثان في أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام ليفقد الجنيه 57% من قيمته ويسجل 24.7 جنيه.
ثم خضع الجنيه للتعويم مجدداً في يناير/كانون الثاني 2023 في إطار تفاوض الحكومة مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد بقيمة 3 مليارات دولار خلال السنوات الأربع القادمة، وبموجب الاتفاق التزمت الحكومة المصرية بتعويم جديد للجنيه -التعويم الرابع- ليصل لأدنى مستوى ويسجل 32 جنيه للدولار، قبل أن يتحسن قليلاً إلى 29.6 جنيه للدولار.
الليرة السورية
سجلت الليرة السورية هبوطا كبيرا بنهاية العام 2022 لتسجل 7300 ليرة للدولار بعدما بدأت العام بنحو 3500 ليرة للدولار في السوق السوداء، لتكون بذلك فقدت 50% من قيمتها، وارتفعت الأسعار بأكثر من 150%، وهو ما دفع السوريين لوصف العام 2022 بأنه الأسوأ معيشياً منذ محاولات نظام بشار الأسد وأد حلمهم بالدولة والعيش الكريم عام 2011.
وعلى المستوى الرسمي، انخفضت الليرة السورية في يناير من العام الحالي إلى ثلاثة آلاف ليرة للدولار بدلاً من 2500 ليرة للدولار، كما تراجع سعر الليرة بسعر النشرة الخاصة بالمصارف والصرافة من 3015 إلى 4522 ليرة، وسعر شراء الدولار لتسليم الحوالات الواردة من الخارج بالليرة من 3000 ليرة إلى 4500 ليرة .
الليرة اللبنانية
شهدت العملة اللبنانية تهاويا سريعا في الأعوام الثلاثة الماضية، فقد ارتفع سعر الدولار يوم الخميس 19 يناير 2023 لأكثر من 50 ألف دولار مقابل 1507.5 ليرات في بداية العام 2019، أي قبل الانهيار المالي الذي شهده البلاد.
وأعلن "مصرف لبنان" المركزي في 27 ديسمبر/كانون الأول 2022، تخفيض سعر صرف الليرة على منصة "صيرفة" لتصبح 38 ألف ليرة لبنانية للدولار، في محاولة للحد من انخفاض قيمة العملة في السوق الموازية، حيث وصلت إلى 47 ألف ليرة للدولار في ذلك الوقت.
وقال المصرف في بيان: "يشتري مصرف لبنان كل الليرات اللبنانية ويبيع الدولار على سعر صيرفة عند 38 ألف ليرة للدولار. ويمكن للأفراد والمؤسسات- ودون حدود بالأرقام- أن يتقدموا من جميع المصارف اللبنانية لتمرير هذه العمليات، وذلك حتى إشعار آخر".
وسجلت الليرة اللبنانية انهيارا متواصلا منذ أزمتها المالية في 2019 حيث كان سعر الصرف 2000 ليرة للدولار في نهاية العام .
الدينار التونسي
انخفض الدينار التونسي في نهاية أكتوبر/تشرين الأول العام الماضي، وبلغ سعر صرفه 3.309 دينار للدولار، ليسجل انخفاضاً بنسبة 15% مقارنة بالفترة نفسها عام 2021. وهناك توقعات بمزيد من التهاوي في قيمة العملة التونسية في حال دخول صندوق النقد في اتفاق مع الحكومة التونسية يتم بموجبه منحها قرض بقيمة 1.9 مليار دولار.
وأفاد الخبير المالي ووزير التجارة السابق محسن حسن بأن تراجع سعر الدينار يوحي باتجاه البنك المركزي التونسي نحو تعويم غير معلن للعملة المحلية.
وأشار إلى أن الصعوبات الاقتصادية التي يواجهها الاتحاد الأوروبي تؤثر أيضاً على عملة تونس نظراً للارتباط الكبير بين الاقتصاد المحلي واقتصاد دول منطقة اليورو.
الدينار العراقي
لا يزال سعر صرف الدينار العراقي متأرجحاً رغم وعود البنك المركزي بضبط قيمة الصرف، وانخفض الدينار إلى 1560 ديناراً للدولار في 26 ديسمبر/كانون الأول العام الماضي، قبل أن يسجل ارتفاعاً طفيفاً ويصل إلى 1535 للدولار في التاسع والعشرين من نفس الشهر.
ونقلت وكالة الأنباء العراقية عن مستشار البنك المركزي إحسان الياسري، قوله إنّ "البنك المركزي اتخذ عدة إجراءات لتوفير عملة الدولار الأجنبي، نتج عنها انخفاض سعر الصرف في السوق المحلي".
الدينار الليبي
يدفع المواطن الليبي ثمن خفض قيمة الدينار الذي تراجع سعره مطلع عام 2021، بنحو 70% من 1.5 دينار إلى 4.83 دنانير، وفق خطة زمنية لمدة 3 سنوات وضعتها الحكومة.
وتفاقمت أزمة الدينار، حيث ارتفع سعر الصرف من 4.48 دنانير للدولار إلى 4.99 بحلول 25 سبتمبر/أيلول 2022، بينما استقر سعر صرف السوق الموازي على 5.22 دنانير.
وفي أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، قرر مجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي تعديل سعر الصرف ليصبح 4.23 دنانير بدلاً من 4.48، وهو ما يثير القلق بخصوص العودة لسعري صرف رسميين عقب توحيدهما في يناير/كانون الثاني 2021.
وقال عضو مجلس إدارة المصرف مراجع غيث إن سعر الدولار سيكون 4.23 دنانير، على أن تتم مراجعته كل ثلاثة أشهر وصولا إلى سعر توازني، وأوضح أن السعر الجديد تم بناء على دراسة اقتصادية ناقشها أعضاء مجلس إدارة "المركزي".
الريال اليمني
سجل الريال اليمني تراجعاً نهاية ديسمبر/كانون الأول 2022 هو الأكبر خلال 8 أشهر. وذكرت مصادر مصرفية في مدينة تعز أن الريال سجل تدهوراً كبيراً بواقع 1225 ريال للدولار الواحد في تعاملات الأربعاء 21 ديسمبر 2022، بعد أن شهد استقراراً نسبياً بين 1100 و1160 ريالاً للدولار الواحد.
وشهد الريال سلسلة من الانهيارات في سعر الصرف، وأصبح بمثابة عملة تداول ثانية بعد الدولار، ويرفض الكثير من التجار وملاك العقارات والأراضي وقطاعات واسعة من الأعمال التعامل بالريال ويستبدلونه بالدولار.
الجنيه السوداني
خلال السنوات الماضية تهاوت العملة السودانية مقابل الدولار خاصة في الفترة التي أعقبت الانقلاب العسكري على عمر البشير، وزيادة المخاطر الجيوسياسية.
ومع اضطراب سوق الصرف وشح النقد الأجنبي في البلاد وزيادة أعباء الدين الخارجي، خفض البنك المركزي السوداني في منتصف يناير 2018 قيمة العملة المحلية إلى 18 جنيها مقابل الدولار من 6.7 جنيه في السابق. وواصلت العملة تهاويها إلى أن بلغ سعر الدولار 800 جنيه في شهر مارس 2022.
إلا أن الجنيه السوداني شهد حالة من الاستقرار بنهاية العام الماضي 2022 في تعاملات السوقين الرسمية والموازية، وشملت حالة الاستقرار سعر الصرف لدى البنوك المحلية لأكثر من شهر دون تغيير في الأسواق الموازية، وثبت التداول عند 580 جنيهاً للدولار.
ولسنوات طويلة، ظلت السوق الموازية تشكل 80% من تداولات النقد الأجنبي السوداني والمتحكم الرئيس في سوق العملات الأجنبية حسب مراقبين، لكن تغيراً طرأ على نشاط السوق الموازي بعد إعلان الحكومة سياسة تحرير سعر الصرف، واتجاه البنوك التجارية لرفع أسعارها ومجاراة السوق الموازية لاجتذاب حركة البيع والشراء.
وفي 21 فبراير/شباط 2021، قرر المركزي السوداني توحيد سعر صرف عملته المحلية الجنيه أمام الدولار والنقد الأجنبي، في محاولة للقضاء على الاختلالات الاقتصادية والنقدية والسوق السوداء للعملة.
كما خفض البنك المركزي سعر عملته من 55 جنيهاً للدولار إلى 375 في أول أيام القرار، وبعد أسبوعين من التطبيق استقر سعر الصرف عند متوسط 390 جنيهاً إلّا أنه بدأ في مجاراة السوق الموازية إلى أن وصل إلى حدود 580 جنيهاً.