أحمد عابدي، معلم إيراني، يتقاضى نحو 300 دولار بعد أكثر من 20 عاما من العمل في المدارس، وهو يعيل أسرة مكونة من 4 أشخاص، لكن راتبه هذا لا يغطي احتياجاته، لكونه دون مستوى خط الفقر الذي يصل إلى نحو 400 دولار لعائلة من 4 أشخاص.
يقول عابدي لـ"العربي الجديد" إن حياته المعيشية تدهورت منذ قرابة 4 سنوات، بعد تعرض إيران لأزمات اقتصادية إثر عقوبات أميركية قاسية طاولت جميع مفاصل الاقتصاد في الدولة، وذلك على خلفية انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي عام 2018.
يشير إلى أن مرتبه قبل فرض العقوبات وبدء الأزمة الاقتصادية كان في عام 2017 نحو 5 ملايين تومان أي أكثر من 1000 دولار آنذاك، لكنه كان جيدا لتدبير أمور عائلته، غير أن الراتب على الرغم من ارتفاعه إلى نحو الضعف بالتومان، لكنه تراجع إلى نحو 300 دولار، وهو "غير كاف لتغطية الإنفاق وفي كثير من الأحيان اضطر للاقتراض".
يلفت المعلم الإيراني إلى أنه فقد أكثر من ثلثي قوته الشرائية خلال الأعوام الماضية على الرغم من الزيادة السنوية للراتب بالتومان، مضيفا "المشكلة أن راتبنا زاد ضعفين، لكن الأسعار زادت عشرات الأضعاف وهنا اختل التوازن الذي كان موجودا سابقا".
قصة عابدي المعيشية ليست معزولة في إيران، وهي تكشف عن سقوط الكثير من الإيرانيين من الطبقة الوسطى إلى الطبقة الفقيرة خلال السنوات الأخيرة على خلفية العقوبات الأميركية التي تعرض لها الاقتصاد الريعي في إيران، المعتمد على الصادرات النفطية بالأساس، وما نتج عنها من أزمات اقتصادية متعددة.
ثلاثية الركود الاقتصادي وارتفاع التضخم البالغ حاليا أكثر من 42% وتراجع قيمة العملة الوطنية نحو 600% خلال السنوات الأخيرة، أطاحت القوة الشرائية للطبقة الوسطى في إيران منذ عام 2018 وقادتها نحو الطبقة الفقيرة، فضلا عن أن ذلك أيضا جعل الطبقة الفقيرة الأكثر فقراً وزاد من الفجوة الطبقية في المجتمع، كما يقول الخبير الاقتصادي الإيراني محسن جندقي.
يضيف جندقي، وهو مسؤول وكالة "بانك مردم" الاقتصادية، لـ"العربي الجديد" أنه بالإضافة إلى المؤشرات السابقة فقد ارتفع خلال هذه السنوات أيضا مؤشر البؤس من 25% إلى 45%، وهو أعلى مستوى له، قائلا إن "أغلبية الطبقة الوسطى أصبحت فقيرة".
ويوضح أن الأزمات الاقتصادية أحدثت تغييرات في التركيبة السكانية للطبقة الوسطى، فعلى سبيل المثال أدت ذلك إلى هجرة داخلية في مدينة مثل طهران، حيث الكثير من أبناء هذه الطبقة قد انتقلوا من المناطق العليا أو المناطق المتوسطة بوسط العاصمة إلى المناطق السفلى الأرخص.
ويلفت إلى أن متوسط الرواتب الشهرية عام 2018 كان بين 400 إلى 600 دولار وحتى 700 دولار، لكنه هبط فجأة مع ارتفاع الأسعار إلى مستوى 150 حتى 200 دولار.
يقول جندقي الذي يدير العلاقات العامة في شركة التنمية الوطنية أيضا، إن إنفاق كل أسرة في المدن خلال العام 2017 قبل الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي كانت 76.75 مليون ريال، بينما ارتفع بنحو الضعفين خلال العام الماضي إلى 160 مليون ريال.
يتهم جندقي الحكومة الإيرانية السابقة بـ"سوء إدارة" الاقتصاد في مواجهة العقوبات الأميركية، مؤكدا أن "الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي لم يكن وحده السبب الأساسي" للأزمات الاقتصادية في إيران، موجها أصابع الاتهام أيضا إلى "السياسات الاقتصادية الخاطئة وضعف التصدي للانسحاب الأميركي من الاتفاق ووضع كل البيض في سلة التفاوض وعدم الاعتماد على الداخل".
في الإطار، يؤكد مركز دراسات الرخاء الاجتماعي التابع لوزارة التعاون والعمل والرخاء الاجتماعي في أحدث بحث له، نشر في 4 أغسطس/ آب 2021، أن أكثر من ثلث أفراد الشعب الإيراني البالغ عددهم 85 مليون نسمة، يعيشون ضمن معدلات الفقر المدقع بعدما زادت نسبة الفقر خلال العام الماضي بنسبة 38%.
ويضيف التقرير أن نسبة الفقر سجلت "ارتفاعا كبيراً" خلال عامي 2018 و2019، أي بعد إعادة فرض العقوبات على إيران، لتصل إلى 32%، لافتا إلى أن أكثر من 30 مليونا من الإيرانيين باتوا ضمن نطاق الفقر المدقع.
الدعم الحكومي للطبقة الوسطى في إيران
يؤكد الخبير الإيراني محسن جندقي لـ"العربي الجديد" أن الحكومة السابقة بعد أن واجهت الأزمات الاقتصادية في بادئ الأمر، أصابتها "الصدمة ولم تكن تعلم ماذا تفعل في دعم الطبقة الوسطى وعامة الشعب"، مضيفا أنها "كانت تفكر بما هو الأكثر إلحاحا وضرورة من دعم هذه الطبقة".
ويلفت إلى أن الحكومة بسبب عجزها في دفع رواتب الموظفين والعمال اتجهت نحو "طباعة النقود والاقتراض من البنك المركزي"، مشيرا إلى أن هذه السياسة رفعت السيولة بشكل كبير، وهو أحد الأسباب الرئيسة لزيادة التضخم وارتفاع مؤشر البؤس فضلا عن زيادة عجز الموازنة.
غير أن "الشيء الوحيد الذي فعلته الحكومة السابقة"، حسب جندقي، هو تخصيص الدولار بسعر الصرف 4200 تومان (التومان عملة وطنية أيضا تعادل 42 ألف ريال إيراني) لاستيراد السلع الأساسية مثل القمح والأرز وغيرهما، وذلك مع ارتفاع كبير في سعر الصرف بالسوق الموازي.
ويوضح أن الهدف من تخصيص النقد الأجنبي بهذا السعر الحكومي للصرف كان منع ارتفاع أسعار السلع الأساسية، و"لذلك فيما ارتفعت أسعار السيارات والدولار والسكن بين 500 إلى ألف في المائة، لم ترتفع أسعار المواد الغذائية على هذا النحو، فعلى سبيل المثال، سعر اللحوم الحمراء لم يرتفع أكثر من 100%، والدجاج أكثر من 200%".
إلا أن "العملة المرجحة (4200 تومان) فقدت قيمتها خلال العام الماضي"، كما يقول الخبير جندقي الذي أشار إلى أنها أيضا سبّبت الفساد وحمّلت الحكومة إنفاقات إضافية.
وثمة تقارير عن أن موردين حصلوا على كميات كبيرة من النقد الأجنبي بالسعر الحكومي (4200 تومان) لكنهم لم يستوردوا السلع الأساسية بها وباعوها بأسعار موازية وصلت إلى 6 أضعاف السعر الحكومي أحيانا خلال السنوات الأخيرة.
في المقابل، اتخذت الحكومة السابقة، إجراءات، مثل رفع البنزين ثلاثة أضعاف، لتسديد عجز الموازنة، ما أضعف الطبقتين الوسطى والفقيرة أكثر من ذي قبل، كما يوضح جندقي الذي أشار إلى تبعات الخطوة الاجتماعية والاحتجاجات التي سببتها خلال نوفمبر/تشرين الثاني 2019.
ويلفت إلى تخصيص الحكومة السابقة دعما شهريا يقدر 50 ألف تومان (أقل من دولارين) لملايين إيرانيين، معظمهم من الطبقة الفقيرة، في مواجهة الغلاء، لكن الخطوة زادت أيضا السيولة في المجتمع وفاقمت التضخم.
إلغاء الدعم الحكومي في إيران
وأثارت خطوة الحكومة السابقة في تخصيص النقد الأجنبي بسعر حكومي (4200 تومان لكل دولار)، انتقادات واسعة لدى الخبراء والقوى السياسية وخاصة المنتقدة لها، وذلك على خلفية الحديث المتصاعد عن الفساد الذي نتج عنه، الأمر الذي دفع الكثيرين إلى المطالبة بإلغاء هذا الدعم وتخصيص دعم شهري للأسرة الفقيرة المتضررة.
غير أن هذا التوجه أيضا له دوافع ربما هي الأكثر أهمية وهي وقف المزيد من العجز بالموازنة وتسديد هذا العجز من خلال عوائد رفع هذا الدعم، فضلا عن تحذيرات يطلقها الخبراء من أن إنهاء هذا الدعم الحكومي سيؤدي إلى ارتفاع جنوني للأسعار مرة أخرى.
يشير الخبير جندقي إلى أن الحكومة الجديدة تتجه إلى إلغاء سعر الصرف بقيمة 42 ألف ريال للدولار الواحد، معتبرا أن إلغاء ذلك "مرة واحدة خطأ"، لافتا إلى أنها بصدد رفع الدعم الشهري للأسر نحو عشرة أضعاف للتعويض عن ارتفاع الأسعار، مع حديث عن توقعات بزيادة أسعار البنزين أيضا، متوقعا أن تواجه البلاد "صدمة تضخم" اذا ما نفذ القرار.
لكن إلغاء تخصيص استيراد السلع بسعر الصرف 42 ألف ريال للدولار، له تبعات وآثار على مختلف طبقات المجتمع الإيراني، حسب الخبير الاقتصادي الإيراني إيرج يوسفي، الذي قال إن الطبقتين الوسطى والضعيفة هما الأكثر تضرراً.
يضيف يوسفي في مقابلة مع "العربي الجديد" أن الحكومة منذ فترة قلصت تخصيص النقد الأجنبي بهذا السعر للسلع، واليوم بات يقتصر غالبا على السلع الغذائية والأدوية، فتقلص تخصيص هذه العملة حتى لاستيراد الأعلاف لمزارع الدواجن وتربية المواشي.
ويعزو الخبير الإيراني، الفساد الذي نتج عن تخصيص النقد الأجنبي بالسعر الحكومي لاستيراد أصناف من السلع إلى "الضعف في الإدارة"، مشيرا إلى أن إلغاء ذلك سيؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية 4 أو 5 أضعاف وحتى 6 أضعاف في أسوء التقديرات.
كما أن من تبعات هذا الإلغاء هو زيادة عدد الفقراء في إيران، حسب يوسفي، الذي يشير أيضا إلى تبعات سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية خطيرة، منها الدفع بالمزيد من أبناء الطبقة الوسطى التي قال إنها تشكل ما بين 50% إلى 60% من المجتمع الإيراني، إلى الطبقة الفقيرة.
زيادة الهجرة والطلاق في إيران
ويقول يوسفي إن الأزمات الاقتصادية من جراء العقوبات الأميركية زادت فعلاً حالات الهجرة والطلاق في البلاد، فضلا عن أنها سبّبت تراجع نسبة الزواج في المجتمع، مضيفا أن استمرار الأزمة الاقتصادية وتراجع الأمل بالمستقبل سيزيد من الهجرة، بينما تفقد البلاد النخبة من شبابها.
ويشير إلى أن الهجرة إلى الخارج خلال عام 2016 (بعد تنفيذ الاتفاق النووي) كانت نحو 700 ألف حالة، لكنها ارتفعت خلال عام 2020 إلى أكثر من مليونين شخص، موضحا أن السنوات الثلاثة الأخيرة شهدت ارتفاعا أكثر للهجرة.
علاوة على ذلك، هناك ارتفاع مستمر في حالات الطلاق بالمجتمع، كما يقول يوسفي، الذي يلفت إلى أن من كل 3 حالات زواج تؤدي حالة واحدة منها إلى الطلاق. ويتابع أن الزواج خلال العقد الأخير تراجع بنسبة 36%، كما أن أرقام الطلاق أيضا زادت 28%.
وحسب البيانات الرسمية، بعدما وصلت عقود الزواج إلى 830 ألفاً عام 2010 في عموم البلاد البالغ عدد سكانها نحو 75 مليون شخص آنذاك، تراجعت الأرقام بشكل مستمر لتسجل العام الماضي 530 ألف زواج، فيما ارتفع عدد السكان إلى 85 مليون نسمة.
واليوم، يقدر عدد الشباب (ممن تجاوزوا الـ 40 عاماً) والذين لم يتزوجوا، بنحو 5 ملايين. لكن شهد العام الإيراني الماضي (21 مارس/ آذار 2020 حتى 20 مارس/ آذار 2021) ارتفاعاً بسيطاً في نسبة الزواج قدرت بنحو 5%، في ظروف تفشي فيروس كورونا، بعدما فرض إلغاء الكثير من العادات والتقاليد المكلفة والمرتبطة بالزواج، والتي تندرج ضمن الكماليات، مثل تنظيم الحفلات الضخمة.
لذلك، أتاحت ظروف تفشي كورونا المجال للراغبين بالزواج في اغتنام الفرصة التي قد لا تتكرر ووفرت عليهم أموالا تسد تكاليف أخرى لبناء الحياة الزوجية.
وفي مواجهة الأزمة الاقتصادية وتداعياتها المتعددة، يؤكد يوسفي، أن أحد أهم الحلول هو رفع قيمة العملة الوطنية الإيرانية التي فقدت الكثير من قيمتها خلال السنوات الأخيرة، مشيرا إلى أنه من خلال رفع قيمة العملة والانفتاح على العالم والتفاوض معه بما يرفع المبادلات الاقتصادية والتجارية مع الدول يمكن الحد من هذه المشاكل وتحسين الوضع الاقتصادي.
ويقول إن إيران بلد غني بالموارد والثروات الطبيعية، داعيا إلى التعامل مع العالم على قاعدة "رابح ـ رابح" وتحسين العلاقات مع الدول للتصدي للمشاكل الاقتصادية وحلها. وينتقد توجه الحكومة نحو عمليات المقايضة في التجارة الخارجية، قائلا إننا نعيش في عصر جديد وعالم جديد وعالم العملات المشفرة والاقتصاد الرقمي.