تتجه أنظار المستثمرين حول العالم نحو اجتماعات صندوق النقد والبنك الدوليين في العاصمة الأميركية واشنطن، التي تنعقد وسط ظروف اقتصادية عصيبة تواجه الحكومات والأفراد في شتى بقاع الأرض، ما يضع صناع السياسات المالية والنقدية في مأزق كبير لإيجاد حلول من شأنها الحد من مخاطر لم تعد تهدد فقط الدول الفقيرة، وإنما أيضا الاقتصادات الكبرى.
وتشهد اجتماعات الربيع لصندوق النقد والبنك الدوليين، في الفترة من 10 إلى 16 إبريل/ نيسان الجاري، خمس قضايا شائكة، لعل أحدثها استقرار القطاع المصرفي بعد انهيار عدة بنوك في الولايات المتحدة وسويسرا، الشهر الماضي، والخفض الكبير في إنتاج النفط من قبل تحالف "أوبك+" الذي يدفع أسعار الطاقة للصعود، ما يربك حسابات كبح التضخم في الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي تحديداً ويجبرها على مواصلة سياسة التشديد النقدي التي تزيد في المقابل مخاطر انهيار المصارف، فضلا عن قضايا أزمة ديون الدول الفقيرة، والعلاقات الأميركية الصينية المضطربة، والنمو العالمي.
وقبل اجتماعات الربيع حذرت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا من الأوضاع الصعبة، قائلة إن "الاقتصاد العالمي يتجه نحو أسوأ فترة نمو له منذ تسعينيات القرن الماضي على مدى السنوات الخمس المقبلة، إذ يطارد ارتفاع التضخم والأخطار المالية الحكومات والبنوك المركزية".
وأوضحت جورجييفا أن "الناتج المحلي الإجمالي العالمي سينمو بمعدل 3% سنوياً على مدى السنوات الخمس المقبلة"، موضحة أن "هذا المعدل أقل من 3.8% المحقق في العقدين الماضيين، والأدنى منذ أكثر من 30 عاماً".
ويجتمع وزراء المالية ومحافظو البنوك المركزية في ظل انتشار الهزات المصرفية التي ألمت بالبنوك الأميركية الإقليمية الصغيرة وما تبعها من تهاوي بنك "كريدي سويس" السويسري في مارس/ آذار الماضي. ورغم تسبب سياسة التشديد النقدي عبر رفع أسعار الفائدة من جانب البنك الفيدرالي الأميركي والبنوك المركزية في أوروبا تحديداً في نشوء أزمة إفلاس المصارف الأخيرة، إلا أنه لا يبدو أن البنوك المركزية ستتوقف قريباً عن رفع أسعار الفائدة في ظل توقعات بقاء التضخم عند مستويات مرتفعة لفترة أطول.
وكشف الانتقال السريع من أسعار فائدة منخفضة ووفرة بالسيولة إلى فائدة مرتفعة وسيولة أقل بكثير، النقاب عن نقاط الضعف بالقطاع المالي، ما جعل مهمة صنّاع السياسات، وفي مقدمتهم البنوك المركزية، أصعب بكثير، بحسب مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا.
كلام جورجييفا جاء على هامش جلسة مشتركة مع رئيس مجموعة البنك الدولي ديفيد مالباس في افتتاح اجتماعات الربيع للبنك والصندوق، الإثنين الماضي، لافتة إلى أن "وظيفة البنوك المركزية أصبحت أكثر تعقيداً نتيجة انكشاف مواطن الضعف بالقطاع المالي"، غير أنها أكدت أن إحدى الأدوات الأساسية لمكافحة التضخم تتمثل في "إبقاء أسعار الفائدة عند مستويات مرتفعة لفترةٍ أطول"، بينما تحقيق الاستقرار بالقطاع المالي، وخفض المخاطر أمام البنوك، "قد يتطلّب تقديم السيولة الموجهة إذا اقتضت الحاجة".
وقالت إن "المخاوف من عدم القدرة على حماية الاستقرار المالي لا ينبغي أن تمنع البنوك المركزية من الاستمرار في رفع أسعار الفائدة لقمع التضخم، الذي ثبت أنه مستمر بإصرار في منطقة اليورو والولايات المتحدة هذا العام"، مضيفة "نتوقع من البنوك المركزية أن تحافظ على مسارها في مكافحة التضخم، وأن تتخذ موقفاً حازماً لمنع تراجع توقعات التضخم".
ولا تزال أصداء خطأ البنك الفيدرالي الأميركي والمركزي الأوروبي وغيرهما من البنوك المركزية في توقع التضخم في عام 2021، تتردد إلى اليوم. فقد انهار مصرف "سيليكون فالي" الأميركي، الشهر الماضي، بعد تراجع قيمة حيازاته من السندات، في أعقاب رفع أسعار الفائدة الأميركية بقوة لكبح التضخم، ما أثار موجة أوسع نطاقاً من الأزمات المصرفية.
موجة أوسع نطاقاً من الأزمات المصرفية
ويُخشى من اتساع نطاق الأزمة، إذ دعت مديرة صندوق النقد الحكومات إلى فرض حملة تنظيمية على ما يسمى "بنوك الظل"، والتي تشمل صناديق التقاعد وشركات التأمين وصناديق التحوط المعرضة بشكل دائم لارتفاع أسعار الفائدة، خصوصاً أنها تمتلك أصولاً طويلة الأمد مثل السندات الحكومية.
ونهاية مارس/ آذار الماضي، قال البنك المركزي الصيني إن انهيار "سيليكون فالي بنك" كشف عن مخاطر رفع أسعار الفائدة بوتيرة متسارعة، فيما تظهر الهند من بين الدول المستاءة من كيفية تعامل الدول المتقدمة مع تحدي التضخم. كما دعا سانجيف سانيال، أحد المستشارين الاقتصاديين لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، الولايات المتحدة ومنطقة اليورو، الشهر الماضي، لتأجيل مزيد من تشديد السياسة النقدية بعد أزمات القطاع المصرفي.
مخاطر اندلاع أزمة ديون
وتجعل الأزمات التي يواجهها العالم أجواء اجتماعات صندوق النقد والبنك الدوليين مشحونة وسط أزمات متعاقبة وتباطؤ اقتصادي. ولا تتسبب سياسة رفع أسعار الفائدة في اتساع نطاق الأزمة المصرفية، وإنما تزيد مخاطر اندلاع أزمة ديون في عدد متزايد من الدول المتدنية الدخل.
وفي منشور على موقعه الإلكتروني، أمس الثلاثاء، أكد البنك الدولي أن ارتفاع أسعار الفائدة وتباطؤ النمو العالمي يؤديان إلى دفع عدد متزايد من البلدان إلى أزمات الديون، مؤكدا أن المبادرات العالمية الرامية إلى مساعدة البلدان على التغلب على مواطن الضعف أثبتت عدم كفايتها. كما أن هذه البلدان لا تزال تفتقر إلى الشفافية الكاملة لديونها.
وتؤدي مواطن الضعف هذه إلى زيادة صعوبة تعافي العديد من الاقتصادات النامية من الانتكاسات التي شهدتها خلال السنوات الثلاث الماضية، في الوقت الذي يبلغ فيه الدين العام عالمياً أعلى مستوى منذ 50 عاماً.
وتحتاج المؤسسات المالية الدولية لمواجهة مثل هذا الوضع إلى المزيد من الموارد، لتفادي أجواء اقتصادية أكثر صعوبة. وواجه ما يُسمى بإطار العمل المشترك لمجموعة العشرين، وهي خريطة لتسريع عملية إعادة هيكلة الدَّين، تأخيرات متكررة، بينما يمثل الوقت عنصراً ذا أهمية، إذ إن هناك ما يقرب من 15% من الدول منخفضة الدخل في مرحلة التعثر في سداد الديون بالفعل، وهناك 45% أخرى عرضة بدرجة كبيرة لمخاطر الدَّين، وعددها آخذ في الازدياد، وفق بيانات صندوق النقد.
وقال ديفيد مالباس، رئيس البنك الدولي، الذي يتأهب لترك منصبه، إن تخفيف أعباء الديون أمر مهم لتفادي "عقد ضائع" من التنمية.
ووفق بيانات صادرة عن البنك الدولي، نهاية العام الماضي، بلغ إجمالي الدين الخارجي للبلدان منخفضة ومتوسطة الدخل 8.1 تريليونات دولار في نهاية عام 2019، ثلثها مستحق لدائنين من القطاع الخاص، بينما يرجح محللون تصاعد هذه الديون كثيراً خلال السنوات الثلاث الماضية بفعل تداعيات جائحة كورونا وزيادة أسعار الفائدة وجموح سعر صرف الدولار.
صدمة النفط
ويُتوقع أن تسيطر نقاشات صدمة النفط على صناع السياسات في اجتماعات الربيع، حيث تسببت الخطوة المفاجئة التي قام بها أخيراً تحالف "أوبك+" بخفض الإنتاج بنحو 1.66 مليون برميل يومياً، في إرباك الاقتصادات الكبرى.
ووصفت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين الخطوة بأنها "غير بناءة"، لكن بعض نظرائها في الدول الرئيسية المنتجة للنفط يتوقعون أن تعزز الخطوة ميزانياتهم العمومية، في الوقت الذي يُرجَّح فيه تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي.
وتضاف التوترات والمخاطر الجيوسياسية إلى الاجتماعات، بينما لا يتضح ما إذا كانت ستشهد لقاءات منفردة بين مسؤولين بارزين من الولايات المتحدة والصين، وسط تدهور أوسع نطاقاً في العلاقات الثنائية بين الطرفين.
ونقلت وكالة بلومبيرغ الأميركية عن جوش ليبسكي، الذي كان من قبل مستشاراً لصندوق النقد الدولي وهو الآن أحد كبار المديرين في المجلس الأطلسي، قوله إن "السؤال الأساسي هو كيف يمكن لصندوق النقد والبنك الدوليين العمل بشكل فعال إذا لم يكن أكبر اقتصادَين في العالم يرغبان بالفعل في العمل معاً؟".