يقول بدران، إنّه أثناء دراسته لميلاد المدن وجد سبعة مراحل تكوينية في حياة المدينة، وفي كل تكوين كان هناك طفرة في المعلومات الجينية للمدينة الموروثة أو ما يسمّى بـ "جينوم المدينة". وتلك الطفرات كانت متأثرة بعوامل مختلفة.
يكمل بدران، أنّه مع بدء التعافي من آثار الحرب العالمية الأولى وولادة الطيران المدني وولادة الثورة الصناعية الثالثة، تعزّز اقتصاد المدن، لكن ازداد الاحتكار على أنواعه، من الإنتاجي والمعرفي والخدماتي، والإعلامي، فضلاً عن الاحتكار للمدينة الافتراضية.
ونتيجة لكل ذلك انقسمت المدن بين الفقيرة والغنية، القوية والضعيفة، المنتجة والمستهلكة وبدأ يتجه التكوين السابع للمدينة إلى الغذاء بسرعة غير مكترث بالمعايير البيئية ذات االاستدامة، وسياسات الاحتكار التي اتبعتها شركات مثل آبل ومايكروسوفت ومنظمات مثل أوبك ودول مثل مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى.
ويتابع المهندس المعماري، أنّه مع انتشار فيروس كورونا في جميع أنحاء العالم، أغلقت المدينة تلو المدينة، وتحولت مراكز الأعمال والتسوق إلى مدن أشباح، وتوقفت حركة المواصلات بما فيها الطيران التجاري والمدني، الذي يعتبر أسرع شبكة نقل في العالم، حيث كانت تقلع يومياً 120 ألف رحلة جوية تقل 12 مليون مسافر وتساهم بـ 18.8 مليار دولار من التجارة العالمية. ونتج عن الوباء طفرة باهظة الثمن في جينوم اقتصاد المدن وجينوم اقتصاد الفراغ العمراني، سنرى نتائجها قريبا.
ويؤكّد بدران أنّنا سنحتاج إلى فترة طويلة لا تقل عن عامين، للتعافي بعد هذا الوباء، ذلك في حال افترضنا توفّر اللقاح.
ويقول إنّ المدن لن تعود إلى ما كانت عليه من قبل، وسينهار الكثير من الخطط المستقبلية العالمية، ومع انهيار الاقتصاد الرسمي تقريباً، ستستمرّ الأنظمة الاقتصادية البديلة في العمل بكثافة ولن يكون الانكماش الاقتصادي مؤقتاً بل أبدياً، فالعالم الاقتصادي رجع إلى الوراء ما لا يقل عن عشرة أعوام، وتزايدت البطالة مع اتجاهات كثير من الشركات لتسريح العمالة.
ويتطرّق بدران إلى التغييرات التي خلّفتها الثورة الصناعية، لافتاً إلى أنّ شوارع المدن الكبرى، كانت مرتعا للعدوى والأمراض. ويتابع أنّه خلال العقد الأخير، ظهرت دراسات كثيرة أكدت على الحاجة إلى طفرة للمدينة، تكون أكثر ذكاء ومناعة ومرونة.
لذلك يعتقد أنّ المدن ستحتاج، في مرحلة ما بعد كورونا، في فترة الإنعاش أو التعافي، إلى بناء خوارزميات ضرورية مبنية على ثورات سلوكية وإدراكية جديدة، قادرة على الانتقال إلى عالم ما بعد كورونا من دون فوضى، وسيكون بمقدور هذه الخوارزميات، التنبؤ بما سيحدث في مدينة لندن مثلا بعد الخروج من حالة الإغلاق.
من ناحية ثانية، يقول بدران إنّه حتى لو طوّر الجسم البشري مناعة ضد المرض، تبقى الحاجة إلى تطوير المدينة، على المدى البعيد، نحو تكوين ثامن يضمن انصهار الفيزيائي والرقمي والبيولوجي في آن واحد.
وأضاف أن دخولنا الثورة الصناعية الرابعة سيجعل الحيز أكثر ذكاء وتكنولوجية ورقمية وخدماتية، وإيكولوجية، وسيكون مؤسسا على توظيف مستدام للموارد البشرية والتكنولوجية والطبيعية. سندخل عهداً جديداً، تسيطر عليه منظومات أكثر خطورة على خصوصية البشر، خاصّة مع تطوير نظام"the internet of biometry"، لكنّه قد يكون ضرورياً. ويتصوّر أنّه على المدى البعيد، قد نمنع من السفر من دون مؤشرات الصحة الإلكترونية المركّبة في أيدينا.
إلى ذلك، يعتقد بدران، أنّ العالم اليوم أدرك الثمن الذي يدفعه مقابل الأنانية، وعدم الشفافية والتكافل، ويرى أنّ المدينة ستتعلّم بناء فراغات واقتصادات "تتكلّم" بعضها مع البعض الآخر وتتشارك في ما بينها، حيث ستنتبه المدن أكثر إلى التكافل، وستكون هذه الأزمة، فرصة لإدارة مالية أفضل عند الغالبية.
أمّا مشاهد ثقافات المدينة مثل اللغة، والطعام والأزياء والعادات ووسائل التسلية، والتاريخ والمعرفة والعمارة والعمران والسلع والخدمات والأسواق، والرياضة والمهرجانات والحياة الليلية والثقافة الثانوية والثقافة التقليدية، فكل هذه المفاهيم لن تعود كما كانت، لكنّها ستواجه فرصة للازدهار من جديد في قوالب جديدة وتصميمات جديدة.
ويوضح بدران أنّه بعد كورونا، ستكون العمارة أكثر حيوية ذكية (Bio-smart)، أي بعكس المفهوم السائد الآن كظاهرة، ستحصل العمارة والفراغ الداخلي على مجسّات تشعر بنا وتسمعنا وترانا وترفّهنا، وتدرّبنا وتشمّنا وتعايننا وتقدم لنا حاجتنا من الصحّة والنقاء والراحة والعمل كل يوم. أي ستكون المدينة آمنه لجميع البشر، واقتصادها ثابتا ومحصنا.
كما ستقدم التكنولوجيا حلولاً، للفقر المركّز، وعدم المساواة الاقتصادية، والفصل العنصري والاقتصادي، التي توفّر أرضًا خصبة لترسيخ الأوبئة وانتشارها.
وفي ما يتعلق بالتجربة الضخمة في العمل عن بعد، يقول بدران إنّها ستترك آثاراً على التصميم العمراني والمعماري، وستوفر فرصة لجذب السكان الى الضواحي حيث لا حاجة للذهاب إلى المكاتب.
وعلى صعيد آخر، ستمرّ المدينة بعملية رأب أو تصدّع عمراني "defragmentation"، إذ ستنتقل بعض الشركات الكبيرة مع مستخدميها إلى خارج المدينة، تاركة فرصة جديدة للتجديد العمراني داخل المدينة. كما يحدث حالياً في وادي السيليكون في كاليفورنيا.
وبخصوص البنى التحتية المدنية، سيتم وفقا لبدران، تطوير خوارزميات، لبناء استخدام ذكي، بغية إعادة فتحها على نطاق واسع وبأمان، ما يعني أنّنا سنحتاج إلى تغيير التصاميم في محطات ومقاعد الحافلات ومترو الأنفاق والقطارات، مع العودة إلى الحياة الطبيعية. فضلاً عن تطوير تطبيقات تنظّم استخدام المسافرين لها بصورة ذكية، مشابهه للنظام في المصاعد الذكية.
ويشير بدران إلى ضرورة إدخال تحسينات على الشوارع لتعزيز البعد الاجتماعي، مثل تطوير برامج مشاركة الدراجات وتوسيع الأرصفة، خاصةً تلك الموجودة في المناطق التجارية المزدحمة، ويقول إنّ نصف مبيعات المطاعم تقريباً سيعتمد على الإنترنت.
ولم يغفل بدران مراكز المؤتمرات والجامعات والمدارس، التي يرى أنّها ستلتزم بتقليل أحجام الفصول الدراسية، وتطوير التعلم عن بعد لحدود جديدة.
ويتطرّق أيضاً إلى الاقتصاد الإبداعي، الذي يرى أنّه معرّض لمخاطر جسيمة، مثل المعارض الفنية والمتاحف والمسارح وأماكن الموسيقى. ويقول إنّ إعادة فتح هذه الأماكن بأمان سيتطلّب أبعد من إجراء تغييرات مؤقتة وطويلة الأجل مثل، فحص درجات الحرارة لدى الناس، والتباعد الاجتماعي الصحي وما شابه ذلك، بل سيمتد إلى خطوات تصميمية جارفه وخارقه وتطوير تكنولوجيا تسمح بإنتاج وتسويق العمل الفني بزمن حقيقي عن بعد، وبالتالي ستشهد قوانين الملكية الفردية أيضا ثورة مفاهيم جديدة.
وأخيراً يعتقد بدران أنّ المطارات لا تربط المدن وتسمح بتدفق الأشخاص والبضائع عبر العالم فقط، بل هي المحركات الرئيسية لاقتصادات المدينة وهي بمثابة نظام الدورة الدموية وشريان الحياة للاقتصاد العالمي، لذلك سيحصل الطيران التجاري على تحديثات حاسمة وخارقة.
ويختم المهندس المعماري بالقول إنّ "فيروس كورونا سيؤثر على مداركنا وسلوكنا المستقبلي، لنصبح أكثر حصانة ومناعة وذكاء وسيطرة على مستقبل الأرض والطبيعه والبشر".