بين حين وآخر، تعود السينما إلى التاريخ، البعيد أو القريب، للتأمّل في مآسٍ وفظائع ارتكبها البشر. أحداث تُتنَاول للمرّة الأولى، وأخرى تُقدّم مجدّدًا لكن بوجهات نظر عديدة ومختلفة: حروب عالمية، وصراعات إقليمية، ونزاعات داخلية طائفية، وعمليات تطهير وإبادة لعرق أو شعب.
في فيلمه الروائي الثاني "أبيض على أبيض"، اختار التشيلي ثيو كورت (1980) أحداث تطهير عرقي، ارتكبت في أعوام مديدة ضد السكان الأصليين في أميركا الجنوبية. وتكمن أهمّ وأبرز نقاط قوّته في عدم إشارته صراحة إلى ما يرمي إليه، إلا في الدقائق الأخيرة، فتنفكّ ألغاز الكثير مما كان غامضًا. قصّته كفكاوية وشبه مُلغّزة، تمضي في طريق تبدو أنها لا تهدف إلى شيء له مغزى.
تدور الأحداث بين نهاية القرن الـ19 ومطلع القرن الـ20. الفيلم ـ الفائز بجائزتي أفضل إخراج و"الاتحاد الدولي للنقاد"، في مسابقة "آفاق"، في الدورة الـ76 (28 أغسطس/ آب ـ 7 سبتمبر/ أيلول 2019) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" ـ قاتم وكئيب بعض الشيء، رغم عدم تقديمه صُورًا صادمة، وعدم استعراضه العنف، مبتعدًا كلّيًا عن الطرح المباشر، ومتجنّبًا السياسة. كما أنّ لا أحداث كثيرة ومثيرة فيه، ولا خيوط معقّدة ومتداخلة، ولا شخصيات مركّبة أو متطوّرة. حكايته بسيطة جدًا، تتمحور حول أحد أوائل المُصوّرين الفوتوغرافيين، الذين امتهنوا تصوير أحداث مهمة ومناسبات مختلفة، كالأعراس، يوم كان التصوير الفوتوغرافي وكاميرا التصوير من الاكتشافات الحديثة، التي بالكاد يُسمع عنها حينها.
في افتتاح الفيلم، الذي يغلب عليه بياض الثلج والضباب دقائق قليلة، يظهر المُصوّر الفوتوغرافي بيدرو (ألفريدو كاسترو) متوجّهًا إلى منزل السيد بورتر، صاحب أراضٍ شاسعة في منطقة "تييرا دِلْ فويغو"، أو "أرض النار"، المشهورة بأراضيها الزراعية الخصبة، وبمناجمها. أراضٍ متداخلة بين الأرجنتين وتشيلي، يقطنها أساسًا شعب الـ"أونا" أو الـ"سيلك نام"، قبل أن تطأها قدما الرجل الأبيض. لم يذكر السيناريو (ثيو كورت وصامويل إم. ديلغادو) كلّ ما سبق نهائيًا، مكتفيًا بمتابعة رحلة بيدرو، الهادفة إلى تحقيق مهنة بسيطة وسهلة.
ذلك أن بيدرو مُكلّفٌ بالتقاط صُور، متفّق عليها سابقًا، خاصّة بعرس، فتكون أول مفاجأة له أنْ لا عرس بعد، ما يدفعه إلى السؤال عن ذلك، من دون الحصول على إجابة شافية. يسأل عن السيد بورتر لالتقاط الصورة، لكن الجواب الوحيد هو أنّ السيّد مشغول للغاية. يرغب في التقاط صورة فردية للعروس، فيوافق بورتر بحذر، لكن الدهشة تتملّكه عندما يفاجأ المُصوِّر أنّ عروس السيد بورتر صبية صغيرة السنّ، تدعى سارة (إستير فيغا)، لعلّها بلغت منذ وقت قريب جدًا، ترافقها دائمًا مدبرة المنزل وراعيتها، السيدة أورورا (لورا روبيو).
تتوالى الأيام، ولا يُقام العرس. يرتاب بيدرو، فتزداد تساؤلاته. يطلب لقاء السيد بورتر، لكن الإجابة واحدة: إنّه مشغول للغاية، وبسبب انشغاله، سيتأجّل العرس، فيضطر بورتر للانتظار، من دون جدوى. يقبل بهذا لتلقّيه أجره. وسط الصحراء القاحلة وندرة البشر، باستثناء عمال أجلاف، ينشغل بيدرو بسارة. تدريجيًا، ينتابه هوس بالتقاط بورتريهات فنية لها، بمساعدة خفية من أورورا. لكن الأمر ينكشف، فيتعرّض بيدرو لضرب مُبرح. مع ذلك، يُبقيه سيده الشبحي في منزله.
حتى هذه اللحظات، يبدو الفيلم ـ المعروض للمرّة الأولى في الشرق الأوسط، في المسابقة الرسمية للدورة الـ3 (19 ـ 27 سبتمبر/ أيلول 2019) لـ"مهرجان الجونة السينمائي" ـ كأنّه يتناول المُصوّر الفنان ورؤيته ومتاعب مهنته، وهوسه بالتصوير الفوتوغرافي، وبالجسد والوجه البشريين، منغمسًا في تجسيد ما هو فني. إيقاع الفيلم بطيء بشكلٍ متعمَّد. رائع بصريًا. جمالياته متقاطعة مع جماليات الفن التشيكلي وجماليات التصوير الفوتوغرافي، المتراكمة منذ اختراعه. الأداء جيّد لألفريدو كاسترو، الهادئ، الذي يعكس جيّدًا حبّ الفنان لعمله وفنّه، والمضطرّ لقبول خيارات مُرّة، توفيرًا للقمة العيش. في المقابل، هناك خوف وتوتّر يخيمان على المكان، حيث تدور الأحداث، التي يسيطر عليها عدم ارتياح، أو قلق مكتوم، ما يمنح الفيلم إثارة وتشويقًا لازمين.
يُقرّر السيد بورتر إقامة العرس. لكن العرس فعليًا، لا يظهر، ولا تُشاهَد صُورٌ أثناء التقاطها. السيد بورتر يبقى مختفيًا طول الوقت. بيدرو، المتجنّب أنْ يشطح تجاه سارة، منشغل بالتقاط صُور هنا وهناك، لأماكن وأشخاص حوله. مع اقتراب النهاية، يظهر بيدرو كأنّه في رحلة رصيد. بعد توقف إطلاق الرصاص، تظهر، في عمق الكادر، جثثٌ شبه عارية لبعض الأشخاص، بينما يصيح رجال بورتر في بيدرو لالتقاط صُور لهم مع الجثث. مُستفيقًا من خدر اللحظة الرهيبة التي عاشها، ومُدركًا أهميتها وتاريخيّتها وخطورتها، ينهمك بورتر جدّيًا في ترتيب المشهد، لالتقاط صورة تاريخية خالدة، تُجسِّد جماليًا وحشية انتصار مأساوي يصعب نسيانه، حيث الأخلاق منعدمة، والعنصرية مقيتة، والأطماع تدمِّر حياة من بقي حيّا من شعب الـ"أونا"، وتاريخه وحضارته.
تعمّد ثيو كورت إطالة مشهد التقاط الصورة الخالدة لوحشية الرجل الأبيض، والمشهد رائع وصادم في آنٍ واحد. قبله، أثناء اختباء بيدرو لحظة إطلاق الرصاص، يظهر ـ في لقطة تبدو كأنها حلم أو رؤية ـ رجل أبيض، يرتدي ملابس قطنية غريبة جدًا، ينظر إلى بيدرو بعدم اكتراث، ثم يتركه ويمضي. لقطة تبدو نافرة ودخيلة وغير منسجمة نهائيًا مع أجواء الفيلم، ومع العصر الذي يرصده. كما أنها تحمل لغزًا كبيرًا. لكن، بالعودة إلى قصّة تصوير الإبادة العرقية للسكان الأصليين، الذين يسرد باتريشو غوزمان (أحد روّاد الإخراج التسجيلي في تشيلي والعالم) تاريخهم وصورهم وأصل حضارتهم، في فيلمه "الزر اللؤلؤة" (2015)، يتبيّن أنّ شعب الـ"أونا" أو "سيلك نام"، كانوا يطلون أجسادهم بأشرطة عرضية بيضاء، تجعلهم أشبه بالحمار الوحشي.
هؤلاء السكان أبيدوا، كما لغتهم، بسبب بريطانيا تحديدًا. لذا، الفيلم ناطق باللغتين الإنكليزية والإسبانية، كما أنّ مساعد السيد بورتر بريطاني الأصل، وربما بورتر نفسه بريطاني أيضًا. هكذا يبدو وجيهًا للغاية اختيار ثيو كورت عنوان فيلمه "أبيض على أبيض"، لتحديد الرجل الأبيض، والخطوط العرضية البيضاء، التي ميّزت أجساد شعب الـ"أونا" فقط، منذ آلاف السنين.