يغوص الفيلم الوثائقي "النسور الصغيرة" (مصر/ لبنان، 2016) للمصري محمد رشاد ـ المُشارك في مسابقة "المهر الطويل" في الدورة الـ 13 (7 ـ 14 ديسمبر/ كانون الأول 2016) لـ "مهرجان دبي السينمائي الدولي" ـ في مسارين مختلفين، تعيشهما مصر في زمنين اثنين، يعود أوّلهما إلى سبعينيات القرن الـ 20، فاتحاً خزائن ذاكرةٍ مليئة بمواجهات شبابية (حينها) ضد نظام سياسي ـ اقتصادي حاكم؛ ويغرف ثانيهما من الراهن أسئلةً، تتعلّق بحراك مدني ـ شعبي، وبعلاقة شخصية ـ ذاتية بين المخرج ووالده، وببحثٍ شبابيّ (أيضاً) عن معنى الماضي، ومغزى غليانه اليساريّ المفقود.
لن يبقى "النسور الصغيرة" أسير فكر يساريّ، يستعيده بعض مناضليه القدامى، زمن أنور السادات. ولن يُحاصَر براهنٍ سياسي، عبر مقارنة الحدث الماضي بالحراك المنبثق من غليان شعبيّ عفوي، يمتدّ 18 يوماً فقط، وينفتح على التباساتٍ غامضة، وتساؤلاتٍ مرتبكة، ونتائج معلّقة. فمحمد رشاد ينطلق، أساساً، من سؤال ذاتيّ محض، قبل أن يذهب إلى أمكنة وأزمنة وحكايات، خاصّة بأفرادٍ يرتبط بصداقةٍ مع أبنائهم. إنه حوار مع الذاكرة والحاضر، ومُقاربة بصرية لأحوال بيئة عائلية واجتماعية وسياسية، منخرطة إما في عزلة شبه تامة عن محيطها العام، وإما في ابتعادٍ عن اختبار قديم، وإما في بحثٍ دؤوب عن أجوبة وتفاصيل.
الشخصيّ أساسيٌّ، لأن محمد رشاد يجد في علاقته الملتبسة بوالده دافعاً إلى البحث الإنساني عن أبٍ، أو عن صورة أب على الأقلّ، لن يعثر عليها، أو على شبيهها، إلاّ في والديّ صديقيه سلمى وبسام. العلاقة الملتبسة بوالده تنسحب على علاقة ملتبسة بمدينته الإسكندرية، فينتقل منها إلى القاهرة، كمن ينتقل من زمنٍ إلى آخر، أيضاً. لكن سؤالاً يُطرَح: هل العلاقتان هاتان ملتبستين فعلاً، أم أنهما حجّة ذاتية وسينمائية معاً، للبحث عن معنى الأصل في العلاقة بوالدٍ ومدينة وصديقين؟ بمعنى آخر: هل الإيحاء بالتباس ٍ ما في العلاقتين مقصودٌ للقيام برحلة في الجغرافيا والتاريخ والاجتماع والذات، أم أنه فعلٌ واقعيّ يستغلّه محمد رشاد لفعلٍ سينمائيّ؟
أياً يكن، ينطلق "النسور الصغيرة" من حاجة محمد رشاد إلى فهم علاقته بوالده، ما يؤدّي به إلى التعمّق في أحوال جيل سابق، يريد انقلاباً على وضع سيئ (زمن السادات)، تماماً كرغبة جيل شبابي في انقلابٍ آخر على وضع أسوأ (زمن حسني مبارك). المقارنة بين جيلين جزءٌ من حكاية الفيلم، والمقارنة بين والد المخرج ووالديّ سلمى وبسام جزءٌ من الحكاية نفسها أيضاً، والمقارنة بين مناخين وفضاءين وزمنين وبيئتين جغرافيتين تُكمل المقارنتين السابقتين.
لكن الأهم من هذا كلّه يكمن في الأداة السينمائية المُستخدمة في صناعة الفيلم، والمتمثّلة بأنماطٍ سردية مختلفة: الراوي/ المخرج، الأب، الصديقان، والدا الصديقين. أنماط سردية تتفاوت أشكالها ومضامينها ومستويات تعبيرها السينمائي، إذْ يبدو الجانب الشخصي (المخرج/ الأب)
أمتن وأقوى وأعمق من كل سردٍ آخر، والبحث عن صورة أبٍ، أو عن أبٍ، أجمل وأهمّ وأكثر سينمائيةً، في بناء مشاهدها، وكيفية تحريك الكاميرا أثناء تصوير اللقطات المشتركة بين المخرج ووالده، والخبريات التي يرويها والده الـ "كوّاء" أثناء عمله في مصبغة الألبسة، التي تكشف، باحتيال بصري موفّق، نوع العلاقة التي تربطهما معاً.
وهذا مخالفٌ، تماماً، لأنماط السرد الأخرى: فرغم أهمية ما يتفوّه به الآخرون، يبقى الجانب المتعلّق بهم أخفّ حضوراً سينمائياً من الثقل الإنساني ـ البصريّ البديع للجانب الذاتي الخاص بالمخرج. والعودة إلى سبعينيات القرن الـ 20، من خلال والدي سلمى وبسام، تبدو صارمةً، بما تحتويه من حكايات متداولة، يُراد لها أن تُشكِّل نوعاً من مقارنةٍ براهنٍ يعصف بجيل شبابيّ مُحبَط، أو متأقلم مع خيبةٍ وألم وتمزّق. أما الكلام المُباشر لوالدي الصديقين، فيؤكّد مرارة الهزيمة التي يُصاب بها جيل شبابيّ في تلك المرحلة، لكنه يبقى أخفّ من شكل السرد ومضامينه العديدة، الذي يقوله والد المخرج.
واللقطات الخاصّة بسلمى وبسام، التي توازِن بين جيلي الأهل والشباب، تُحافظ على بساطتها، مع تفوّقِ حضور الأب وعالمه وفضائه وزمنه وأشكال عيشه وأسلوب تربيته. والمخرج يجعل هذا كلّه نواة حبكة سينمائية تمزج الذاتي بالعام، والماضي بالراهن، والرغبة في اكتشاف المخبّأ أو بعضه، بواقعٍ تبدو إعادة صوغه صعبة: واقع مسارات معلّقة، في العلاقة بالأب والصديقين والمدينتين والذاكرتين، كما بالحكايات والمرويات والخيبات. وفي مقابل صلابة الأب وصرامته الواضحتين في ملامح وجهه، ونبرة صوته، وإيقاع خبرياته؛ تظهر سلاسة السرد لدى والديّ الصديقين، وعمق انفعالهما وانكساراتهما، ما يدفع بعض الدموع إلى عيونٍ مقهورة، وإنْ تشعّ بشيء من أملٍ موارِبٍ وغير واضحٍ.
هذه شهادة بصرية، تمتلك شرطاً سينمائياً، وتطمح إلى توثيق لحظة وحكاية وواقعٍ، بعيني مخرجٍ يذهب بعيداً، أحياناً كثيرة، في صراحته وشفافيته وصدقه، إنسانيّاً وسينمائيّاً.
اقــرأ أيضاً
لن يبقى "النسور الصغيرة" أسير فكر يساريّ، يستعيده بعض مناضليه القدامى، زمن أنور السادات. ولن يُحاصَر براهنٍ سياسي، عبر مقارنة الحدث الماضي بالحراك المنبثق من غليان شعبيّ عفوي، يمتدّ 18 يوماً فقط، وينفتح على التباساتٍ غامضة، وتساؤلاتٍ مرتبكة، ونتائج معلّقة. فمحمد رشاد ينطلق، أساساً، من سؤال ذاتيّ محض، قبل أن يذهب إلى أمكنة وأزمنة وحكايات، خاصّة بأفرادٍ يرتبط بصداقةٍ مع أبنائهم. إنه حوار مع الذاكرة والحاضر، ومُقاربة بصرية لأحوال بيئة عائلية واجتماعية وسياسية، منخرطة إما في عزلة شبه تامة عن محيطها العام، وإما في ابتعادٍ عن اختبار قديم، وإما في بحثٍ دؤوب عن أجوبة وتفاصيل.
الشخصيّ أساسيٌّ، لأن محمد رشاد يجد في علاقته الملتبسة بوالده دافعاً إلى البحث الإنساني عن أبٍ، أو عن صورة أب على الأقلّ، لن يعثر عليها، أو على شبيهها، إلاّ في والديّ صديقيه سلمى وبسام. العلاقة الملتبسة بوالده تنسحب على علاقة ملتبسة بمدينته الإسكندرية، فينتقل منها إلى القاهرة، كمن ينتقل من زمنٍ إلى آخر، أيضاً. لكن سؤالاً يُطرَح: هل العلاقتان هاتان ملتبستين فعلاً، أم أنهما حجّة ذاتية وسينمائية معاً، للبحث عن معنى الأصل في العلاقة بوالدٍ ومدينة وصديقين؟ بمعنى آخر: هل الإيحاء بالتباس ٍ ما في العلاقتين مقصودٌ للقيام برحلة في الجغرافيا والتاريخ والاجتماع والذات، أم أنه فعلٌ واقعيّ يستغلّه محمد رشاد لفعلٍ سينمائيّ؟
أياً يكن، ينطلق "النسور الصغيرة" من حاجة محمد رشاد إلى فهم علاقته بوالده، ما يؤدّي به إلى التعمّق في أحوال جيل سابق، يريد انقلاباً على وضع سيئ (زمن السادات)، تماماً كرغبة جيل شبابي في انقلابٍ آخر على وضع أسوأ (زمن حسني مبارك). المقارنة بين جيلين جزءٌ من حكاية الفيلم، والمقارنة بين والد المخرج ووالديّ سلمى وبسام جزءٌ من الحكاية نفسها أيضاً، والمقارنة بين مناخين وفضاءين وزمنين وبيئتين جغرافيتين تُكمل المقارنتين السابقتين.
لكن الأهم من هذا كلّه يكمن في الأداة السينمائية المُستخدمة في صناعة الفيلم، والمتمثّلة بأنماطٍ سردية مختلفة: الراوي/ المخرج، الأب، الصديقان، والدا الصديقين. أنماط سردية تتفاوت أشكالها ومضامينها ومستويات تعبيرها السينمائي، إذْ يبدو الجانب الشخصي (المخرج/ الأب)
وهذا مخالفٌ، تماماً، لأنماط السرد الأخرى: فرغم أهمية ما يتفوّه به الآخرون، يبقى الجانب المتعلّق بهم أخفّ حضوراً سينمائياً من الثقل الإنساني ـ البصريّ البديع للجانب الذاتي الخاص بالمخرج. والعودة إلى سبعينيات القرن الـ 20، من خلال والدي سلمى وبسام، تبدو صارمةً، بما تحتويه من حكايات متداولة، يُراد لها أن تُشكِّل نوعاً من مقارنةٍ براهنٍ يعصف بجيل شبابيّ مُحبَط، أو متأقلم مع خيبةٍ وألم وتمزّق. أما الكلام المُباشر لوالدي الصديقين، فيؤكّد مرارة الهزيمة التي يُصاب بها جيل شبابيّ في تلك المرحلة، لكنه يبقى أخفّ من شكل السرد ومضامينه العديدة، الذي يقوله والد المخرج.
واللقطات الخاصّة بسلمى وبسام، التي توازِن بين جيلي الأهل والشباب، تُحافظ على بساطتها، مع تفوّقِ حضور الأب وعالمه وفضائه وزمنه وأشكال عيشه وأسلوب تربيته. والمخرج يجعل هذا كلّه نواة حبكة سينمائية تمزج الذاتي بالعام، والماضي بالراهن، والرغبة في اكتشاف المخبّأ أو بعضه، بواقعٍ تبدو إعادة صوغه صعبة: واقع مسارات معلّقة، في العلاقة بالأب والصديقين والمدينتين والذاكرتين، كما بالحكايات والمرويات والخيبات. وفي مقابل صلابة الأب وصرامته الواضحتين في ملامح وجهه، ونبرة صوته، وإيقاع خبرياته؛ تظهر سلاسة السرد لدى والديّ الصديقين، وعمق انفعالهما وانكساراتهما، ما يدفع بعض الدموع إلى عيونٍ مقهورة، وإنْ تشعّ بشيء من أملٍ موارِبٍ وغير واضحٍ.
هذه شهادة بصرية، تمتلك شرطاً سينمائياً، وتطمح إلى توثيق لحظة وحكاية وواقعٍ، بعيني مخرجٍ يذهب بعيداً، أحياناً كثيرة، في صراحته وشفافيته وصدقه، إنسانيّاً وسينمائيّاً.