في إحدى لحظات هذا العرض، تقول الممثّلة، منى، مستشهدة برواية هيفاء بيطار "إمرأة من هذا العصر"، أنَّ علاقتها مع المرض جعلت "جذورها أكثر عمقاً". هي آلام تجترح من الضعف قوّة. هكذا ارتأت كاتبة النص المسرحي، عبير همدر، تصوير مرض السرطان، مُغلّفاً بالنايلون الذي شكَّل العنصر الأساسي في الديكور. هذا النايلون الذي يغلّف مكان وجود المرضى، يقدِّم هذا الإحساس بالهشاشة الدافع إلى التمسُّك بالحياة أكثر. شعورٌ يزدادٌ تناقضاً حين تدخل سلام (ديما الأنصاري) إلى فضاء العرض: امرأة في عيادة تنتظر موعدها، اكتشفَت مُؤخّراً إصابتها بالسرطان الذي تجابهه بتوتر وبنكران كلّيين. تدخل القاعة بكامل أناقتها لتسأل السكرتيرة عن موعدها. لا تملكُ تلك الأخيرة سوى إجابةٍ واحدة طوال العرض: "هناك انتظار". هو انتظارٌ شبهٌ أزليُّ يحيلنا إليه العرض، ويعرِّفنا على سبع شخصيات يتشاركْن تجربتهنّ مع مرض السرطان بعيداً عن كلّ الكليشيهات التي تضعُ المريض في موقع الضحيّة، وبعيداً عن أي استدرار لمشاعر الشفقة.
إلهام، منى، سلام، كاتيا، السكرتيرة، مريم (شخصية رواية هيفاء بيطار)، وأم فراس (التي نطق بتجربتها زوجها) هن سبع نساءٍ عربيات، تعاطت كل واحدة منهن مع مرضها على طريقتها الخاصة. إلهام (نماء الورد) هي تلك المرأة العراقية الشبقة التي حافظت على حسّ فكاهتها، بعد أن وصل السرطان إلى أنفها، منى (علية خالدي) هي المرأة الهادئة المتصالحة مع ذاتها التي تلجأ إلى مقتطفات روايةٍ لتسند يومياتها، كلٌ يقاوم المرض على طريقته.
حرصت كاتبة النص أن تكون مقاربتها موضوعية، فلم تفرط في تقديم صورة زهرية اللون عن المرض، ولم تبالغ في تقديم طرحٍ سوداوي تراجيدي. منحت شخصياتها فضاءً لا بأس به من اللعب المتناسق الذي لامس حداً بسيطاً من الكاريكاتورية، ترافقه عبثية الانتظار. إلا أن نص عبير همدر لم ينجُ من بعض الإطالة في الحوارات، ومباشرةٍ كان من الممكن تجنبهما خاصةً عندما استُهِل العرض بفيديو حول امرأة تؤنب فتاة لأنها ذكرت اسم مرض السرطان. كما بدت تلك المباشرة أكثر بروزاً عندما ظهر البعد السياسي للنص الذي أضفى، رغم بعض الجمل المباشرة، جماليةً أخرى على العرض. مع نظام قاتل مشابه لنظام صدام يصبح السرطان أكثر قبولاً وفقاً لإلهام. ويرى أبو فراس الذي يحمل جهاز الراديو طوال الوقت، أن صوت زوجته المصابة بسرطان الحنجرة، قد اختفى حين ازدادت وطأة الحرب في سورية، وحين لم تسمع خبراً عن ابنها المختفي. إنَّه المرض بحب أوطاننا المنكسرة، كما أوحت في يوم من الأيام نادية تويني التي لم يوفرها السرطان أيضاً.
لعب الممثلون دورهم بإتقانٍ معقول لم يخلُ أحياناً من المبالغة في الأداء، وشكّل حضور كل من نماء الورد وعلية الخالدي مفاجأتين عطرتين للجمهور أضيفت عليهما اللمسة الكوميدية العفوية التي وضعتها لينا أبيض حين لعبت دور السكرتيرة.
بيّنت لينا أبيض مكامن الألم في تيمتها المرضية من خلال تعاطيها مع الفضاء، فاصلةً بين حيز شخصياتها وبين حيز شخصيتي مريم والراقصة (مي أوغدن سميث) اللتين قلّما دخلتا الحيز الأساسي للعب سائر الشخصيات. قمّة الألم تتمخض وتنتفي في تجاورٍ بين الرقص والأدب خارج الحيز الأساسي للعرض في قاعة نهى راضي. تلك القاعة في مسرح المدينة التي امتلكت رمزيتها أيضاً في العرض بعد مناجاة إلهام لصورة نهى المعلّقة خلف الفضاء المخصص للمشاهدين. نهى الفنانة العراقية التي هجرت بلادها والتي أصابها السرطان وتحدته قدر ما أتاح لها النفس.
هكذا بدا المشاهد محاصراً من كل الجهات في لعبة فضاءات مستطيلة: جهة الحيز الأساسي لتحرك الممثلين، الحيز حيث ترقص الراقصة رقصة الألم وتؤسلبه والحيز الخلفي الذي يتيح لللغة والأدب تخفيف وطأة الجسد الصارخ ألماً والحيز الجانبي حيث تجلس السكرتيرة التي لم تكف عن أكل التفاح. التفاح الذي لا يشبه طعم التفاح السوري على حد قول أبو فراس والذي تحاول أن تسترد طعمه السكرتيرة بعد أن تعافت من المرض، وهو ذاته الذي رمته في نهاية العرض والذي حُمِّل دلالاتٍ كثيرة.