سجّل سيد درويش هذا الدور عام 1923 لأول مرة على أسطوانة، بعد سنوات من تلحينه. لاحقًا، أدّاه كل من محمد عبد الوهاب، ورياض السنباطي، وفيروز، وعباس البليدي، وآخرون. لم تكن إعادة تقديم الدور مجالًا للمنافسة بين الأصوات، بل ربما كان الشغف باللحن سببًا أساسيًا؛ فحاول كل فنان إضفاء شخصيته عليه. عدا أن سعاد محمد منحت هذا اللحن كل كيانها، كما لو كان موضوعًا لأجل صوتها تحديدًا. لماذا يمكننا القول إنها أفضل من غنّاه؟
هناك عدة عوامل لا علاقة لها بحداثة الآلات؛ أي التوزيع الأوركسترالي المصاحب لصوتها، ووضوح التسجيل مقارنة بتسجيل الأسطوانات في أداء سيد درويش. يمتاز أداء سيد درويش بمسحة عاطفية، ورغم جمال صوته وتمكّنه، إلا أن الصوت ليس مجال نبوغه، بل الألحان باعتباره مجددًا. وعلى العكس، كان مغنيًا تقليديًا. غير أن الحداثة أو التقليدية ليست عاملًا تفضيليًا؛ فعلى سبيل المثل، كان الموسيقي يوهان سباستيان باخ بنظر عصره تقليديًا، مع هذا كان أحد أبرز معاصريه وأهمّهم.
حافظت سعاد محمد على شخصية اللحن في مضمونه التطريبي مع إضفاء سماتها الشخصية. هي لم تبتكر شيئًا، إلا أنها منحت اللحن جماليات نابعة من أعماق صوتها، عبر امتداد صوتها الشجي والمتمكّن؛ لتصهر اللحن في فضاءات طربية مشحونة بالعاطفة.
ينتمي صوت سعاد محمد إلى مدرسة الغناء التقليدي كما أم كلثوم، لكنها خضعت لمعايير عصر يلهث وراء التطوير. وهذا المنحى التقليدي لم يمنعها من أن تضيف للدور أكثر من الآخرين، حتى أولئك الذين راهنوا على ما اعتبروه فضاءً تعبيريًا.
يصعد صوت سعاد محمد إلى الطبقات العليا، ثم ينتقل إلى طبقات منخفضة بسلاسة، من دون أن ننسى رنينها الزخرفي والآهات. يبلغ صوتها الذروة في الكوبليه الأول: "ما فيش كده ولا في المنام". وهذا التكنيك العالي لم يجعل أداءها ميكانيكيًا، بل كان أداءً يجمع بين التكنيك والعاطفة/الحرارة، لتمنح الأغنية إحساسًا عميقًا لا يبقى محصورًا في التكنيك الطربي.
وإذا اعتمدنا على المصطلحات الشائعة؛ فهي نجحت في إعطاء اللحن خاصيته التطريبية والتعبيرية في أعلى مستوياته بالنسبة لجميع من أعادوا غناءه. ربما يبدو مصطلح التعبيرية في الموسيقى ملتبسًا، وعليه بعض التحفظات، لكن من الممكن تجسيده في تعبير الفنان العاطفي للحن.
شكّلت التعبيرية هاجس تطوير الأغنية العربية لدى المشتغلين في الموسيقى، واعتُبر سيد درويش رائد هذا الاتجاه، وربما فرض البعد الدرامي للمسرح على درويش إضفاء هذا اللون. يؤكد محمد عبد الوهاب أفضلية سيد درويش في إدخال التعبير على اللحن، حتى في الأدوار الكلاسيكية، خص منها ثلاثة أدوار، منها "أنا هويت وانتهيت".
يشير عبد الوهاب إلى أن سيد درويش منح قالب الدور الدراما؛ أي التعبير باللحن بما يتفق مع الكلام، وليس هذا مجال حديثنا؛ إذ ندرك أن بعض ألحان عبد الوهاب سبقت الكلام، وهذا أيضًا ما يقال عن بعض ألحان سيد درويش.
هل شكّل الحس الدرامي دورًا في شعبية "أنا هويت وانتهيت" إذا ما اعتبرنا فعلًا أن هناك سمة درامية في اللحن وتحديدًا المطلع؟ غنت سعاد محمد هذا الدور عام 1964، بتوزيع أوركسترالي أشرف عليه الملحن اللبناني توفيق الباشا، بهدف إعادة تقديم التراث بشكل محدَّث. ربّما، يفضّل بعضهم التخت الشرقي محدود الآلات لأداء هذا النوع من الغناء، وتحديدًا بصورته الأصلية كما غناه سيد درويش. مع اتساع التخت الشرقي وزيادة عدد الآلات في الغناء العربي، انتهى عصر الأدوار، وكان آخر دور لحنه الشيخ زكريا أحمد للسيدة أم كلثوم عام 1938؛ "عادت ليالي الهنا".
وصلنا تسجيلان بصوت عبد الوهاب لـ "أنا هويت"؛ الأول بتوزيع موسيقي حديث، والثاني على العود. لم يكن صوته في مرحلته الذهبية، بل فقد الكثير من طبقاته. عمومًا، هي الفترة نفسها التي أعاد فيها عبد الوهاب تقديم ألحان قديمة له بتوزيع أحدث، مثل "خايف أقول" و"في الليل لما خلي".
لم يتقيّد عبد الوهاب بشخصية اللحن؛ أولًا، دخل صوته مباشرة من دون الجملة الموسيقية في البداية، وجعلها فاصلة بين المذهب وأول كوبليه، مستغنيًا عن الكوبليه الثاني والأخير الذي يبلغ فيه الدور ذروته من خلال أداء "الهنك". يستمر الكوبليه الأول بنفس لحن المطلع، ثم تتم إعادته بتنويعات لحنية تتخلّلها آهات وتلوينات تطريبية وزخرفية، بينما اقتصد عبد الوهاب في أداء الآهات، وبترها لتصبح خفيفة وقصيرة. احتفظ فقط بالطابع اللحني، وأضفى عليه تلوينات تستبعد الجوانب الطربية، أحال فيها قالب الدور إلى شكل الأغنية العادية.
لاحقًا، في تسجيل آخر على العود، يغني الدور بشكله الأصلي مع تخفيض في درجات اللحن ليتفق مع انخفاض طبقات صوته. أما فيروز، فتكتفي بأداء المطلع فقط، من دون مس اللحن بأي تحوير لا مجال لمجاراة سعاد محمد في التعبير العاطفي، إلى جانب ما أضفته بتلويناتها التطريبية عبر مساحة صوتها العريضة الذي امتد في هذه الأغنية إلى 13 درجة صوتية.
أتقن عباس البليدي أداء "أنا هويت وانتهيت"، إلا أن صوته جسّد تكنيك الدور، أداء الآهات والزخارف اللحنية، مجيدًا ألوانه التطريبية، لكن بحرارة أقلّ؛ فلا يترك، غالبًا، لدى المستمع ذاكرة انطباعية لتتوقف عنده. عبد الوهاب وفيروز يتركان هذا الأثر، وربما أصوات أقل مثل سيد مكاوي. ربّما هذا ما نحاول قوله حول أداء سعاد محمد لهذا الدور، إذ يشعر المستمع معها كأنّ اللحن مُكتمل، كما لو أن الأغنية لُحّنت لها وانتظرتها أربعة عقود لتغنيها.
عندما سُئل رياض السنباطي عن سعاد محمد، وصفها بالعملاقة، مضيفًا: "الحظ لم يواتها". فنانة كبيرة عاندها الحظ، مساحة صوتها العريض، أداؤها، وعمق إحساسها، وضوح لفظها للكلام؛ كلّها عوامل تجعل منها فنانة من طراز خاصّ.
هل كان حظّها عاثرًا؟
لو أنّ سعاد محمد (1926 - 2011) بيننا اليوم، لكان عمرها 92 عامًا. غالبًا، فإن آخر ظهور لها على المسرح كان في نهاية التسعينيات. كثيرون يقولون إنّ حظها كان عاثراً. هل هذا صحيح؟ يُروى أن سيد مكّاوي كان يقول: "كلّما ذهبت إلى سعاد لأعطيها لحنًا؛ فإما وجدتها تَلِد، أو تطبخ". تزوجت صاحبة "وحشتني" ثلاث مرّات، وأنجبت 10 أبناء. لعلّ حظّها "العاثر" كان خيارًا شخصيًا، وليس قدريًا تمامًا.
مذهب وأغصان وآهات
الدور قالب غنائي عربي قديم، لا نعرف إذا كان شكل الأدوار الحديثة هو نفسه الذي عُرف خلال مرحلة ازدهاره في العصر العباسي، لكن الأدوار الحديثة اتّخذت شكلًا بات متعارفًا عليه، ويعود فضل تطويره في مصر لـ محمد عثمان وعبده الحامولي. يتكوّن الدور من مذهب وأغصان، وآهات تتيح للمؤدّي إبراز مساحات صوته وقدراته. في "الهنك"، أو الردود، يتناوب المغني والكورس على غناء بيت أو اكثر بألحان مختلفة.