تساؤلات عديدة يطرحها شبابٌ مصريون يعملون في فنادق سياحية في شرم الشيخ. يحاولون عبرها فهم أحوالهم ووقائع العيش اليومي في مدينة مُعطّلة بعد وقوع عملية إرهابية فيها. الشلل واضحٌ. الأمكنة خالية من زوّارها، والعاملون فيها يُنفّذون مهمّاتهم (تنظيف الغرف، تقديم حلقات راقصة أمام المسابح، تدليك، تهريج، جولات برية بالسيارة، "دي. جي."، إلخ)، كما لو أن السيّاح حاضرون. بعض هؤلاء الأخيرين موجودٌ (في لقطة واحدة، يظهرون في إحدى السهرات الراقصة بأعداد أكبر)، إنْ بشكل نادر أو عبر كلامٍ يتداوله الشباب المصريون في ما بينهم عن ماضٍ حيوي لكنه منتهٍ. هذا مأزق يدفع إلى تساؤلات تتناول رغباتهم وأحلامهم وهواجسهم، وتعيد صوغ علاقاتهم بأنفسهم وبمن يحيط بهم، كما بأهلٍ وزوجات وأحبّة مختفين أو مغادرين من حياتهم.
التساؤلات مشروعة. إنها مطروحة على ألسنة شبابٍ كثيرين يعانون مأزق هوية وانتماء وعلاقة ببلدٍ واجتماع. الثنائي المصري مروان عمارة والألمانية يوهانا دومكي يلتقط تلك التساؤلات في "الحلم البعيد"، المُشارك في مسابقة الأفلام الوثائقية في الدورة الـ53 (29 يونيو/ حزيران ـ 7 يوليو/ تموز 2018) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي". المشاركة بحدّ ذاتها تدعو إلى التساؤل عن سبب اختياره في هذه المسابقة، إذْ ينتمي الفيلم إلى النوع الروائي ببنائه الدرامي وسرده الحكائي وشخصياته وحواراته ومناخه، وأيضًا بممثليه الذين هم أنفسهم غير ممثلين بل يعرضون تجارب وحكايات متداولة في أزمات يتخبّط فيها بلد وجغرافيا عربية وعالم بكامله.
اختيار "الحلم البعيد" ـ بمناخه الروائي ـ لمسابقة وثائقية لن يكون المأزق الوحيد الذي يعانيه الفيلم. اختياره في المسابقة الوثائقية مسؤولية برمجة إدارة المهرجان وخياراتها، وإنْ يُقدِّمه صانعوه على أنه وثائقي. المآزق الأخرى قليلة، ترتبط به كصنيع سينمائي، يطرح موضوعًا حيويًا وآنيًا وضروريًا، من دون أن يمتلك مفردات سينمائية، وثائقية أو روائية، قادرة على جعله فيلمًا متين الصُنعة. فتسجيل الصوت محتاجٌ إلى تأهيل جذري، والتصوير والإضاءة غير منفّذين غالبًا بشكل متلائم والمناخات الدرامية والإنسانية والنفسية. بينما التمثيل غائبٌ لحساب الأهمّ في حالاتٍ عديدة: عفوية الأداء والقول والبوح، التي يمتلكها 7 شباب (3 صبايا و4 شبان) يحاولون إيجاد معادلات تمكّنهم من البقاء في "مدينة الأشباح" تلك.
أما سبب غياب السيّاح عن شرم الشيخ فـ"غائبٌ" في المبنى الدرامي لـ"الحلم البعيد". ذلك أن الكلام الكثير الذي يقوله هؤلاء يخلو من تلميحٍ بسيط على الأقلّ يُشير إلى السبب. كما أن شخصية "القرد"، المُقدَّمة بشكل فانتازيّ غير واضح وغير مُقنع، تبقى غريبة بمعناها ومغزاها، رغم أنها تُشبه "كاهنًا" يستمع إلى اعترافات الشباب الـ7، وإلى أهوائهم ورغباتهم وعيشهم؛ أو إلى طبيب/ مُعالج نفسيّ يحاول أن يدفع كل واحدٍ منهم إلى أعماق نفسه لينتبه إلى ما فيها من ارتباكات ومطالب وتطلّعات، بهدف إجراء نوعٍ من المُصالحة مع الذات. مع هذا، فإن شخصية القرد غير مُترجمة سينمائيًا بما تتطلّبه الحالة البصرية والإنسانية والنفسية من صُوَر وتعابير تُختزل كلّها بكلامٍ وبسيرٍ سريع أو بطيء خلف القرد.
هذا يظهر بارتباكٍ دراميّ رغم أهميته. تمامًا كأهمية كلامٍ يقوله كلّ واحد منهم إما مع آخر ما، أو مع القرد، أو مع نفسه. لكن هذا كلّه غير متمكّن من تشييد بناء سينمائي متماسك وقادر على أن يكون مرآة حيّة لوقائع وانفعالات وهواجس، ولخللٍ يُعطِّل كل علاقة صحية بين كلّ واحد منهم وأطراف آخرين، كالأب أو الزوجة أو الحبيب أو الصديق أو العائلة أو الأهل. وإذْ يبدو هذا من الميزات القليلة في "الحلم البعيد"، فإن مشاهد التوهان في صحراءٍ لحظة غياب الشمس مثلاً، أو التسكّع على قمة تلّة عالية أمام البحر، أو اللقطات القليلة جدًا المُصوّرة بصمتٍ شبه تام، تُشكٍّل ميزة أخرى.
غير أن هاتين الميزتين منفصلتان إحداهما عن الأخرى، ومستقلتان معًا عن السياق الدرامي المتكامل للنصّ الأصليّ.