في هذه المناسبة، أجرت "العربي الجديد" حوارًا معه.
(*) عندما قرأتُ عنوان الفيلم، توقّعتُ فيلمًا نوستالجيًا. إلاّ أنّك حملتني إلى تجربة حميمة. هل كان هذا قرارك منذ البداية؟
- نعم. كانت هذه مقاربتي منذ البدء. لم أرغب في أنْ يكون الموضوع الرئيسي للفيلم موت السينما. اخترتُ له صيغة معينة: اللازمة. في المقابل، أعتقد أنْ الفيلم لا يبخل على المُشاهد بلحظات يمكن نعتها بالنوستالجية، على ما تقول. آخر أعمال ترميم شهِدَتها هذه الصالة كانت في سبعينيات القرن الـ20، وهي الفترة التي كان فيها "بطل" الفيلم شابًا.
"عارض الأفلام" يُعبّر عن نظرتي الشغوفة إلى السينما. عندما أُقفِلت هذه الصالة، وجدتها مناسبة لتحويل هذه القصّة إلى فيلم.
(*) هل لديك تجربة فردية خاصة مع هذه الصالة؟
- كنتُ في السادسة من عمري، عندما رافقتُ أخي الأكبر إلى وسط المدينة في كييف. كان الطقس باردًا جدًا. انتظرنا أحدهم لمدّة ساعتين. لم نكن نعلم أين نذهب، فدخلنا إلى هذه الصالة. شاءت الصدفة أنّي كنتُ متعبًا، فنمتُ طوال عرض الفيلم. لم أرَ منه أية لقطة.
هذه ذكرياتي الأولى عن الصالة. هذا أحد لقاءاتي الأولى بالشاشة، التي صارت لاحقًا شغفي الدائم. لا أعرف إذا عشتُ حكاية مثيرة كما عاشها غيري، على طريقة "سينما باراديزو" أو فرنسوا تروفو. عندما بدأتُ أصوّر في الصالة، كانت بدأت تُستخدَم كمكان لإجراء الـ"كاستينغ" (اختيار الممثّلين). كان يمرّ فيه نحو 200 شخص يوميًا. أحيانًا، كانت تُلغى العروض لهذا الغرض. ثم بدأتُ أفهم أنْ ما أصوّره ليس جيدًا. المادة التي في حوزتي كانت رديئة. فصرتُ أتسكّع في "كابينة" العرض، وأصرف فيها وقتًا كثيرًا.
هكذا تعرفتُ إلى العارض. ذات يوم، وأنا أدخّن سيكارة برفقته، طمأنني بأنّ كلّ شيء على ما يرام، وبأننا نستطيع أنْ نصوّر فيلمًا معًا. اكتشفنا أنّ لدينا نقاطًا مشتركة عديدة. حتى أسماؤنا كانت متقاربة، وتاريخ ولادتنا (بالنسبة إلى اليوم والشهر ـ المحرر). فهمتُ أنّه يعيش آخر أعوامه قبل بدء مرحلة التقاعد، بينما كنتُ في سنتي الجامعية الأخيرة. هذا يعني أنّ حياةً جديدة كانت في انتظارنا. حياة كنّا نجهل تفاصيلها، وإلى أين ستحملنا. هو كان يعلم أنّه سيتقاعد، وأنا كنتُ أعرف أنّي سألفّ العالم بعد تخرّجي الجامعيّ (ضحك).
(*) هل تعرّفك إلى عارض الفيلم كان نقطة انطلاق المشروع؟
- نقطة الانطلاق كانت الـ"كاستينغ" والسينما. في البداية، وجدتُ فيهما ما يشبع فضولي. لكن، بعد شهرين فقط، تعرّفتُ إلى العارض، وحملني إلى مستوى آخر. اكتشفتُ أنّي أستطيع قول كلّ شيء من خلاله. لم أكن أحتاج إلى المزيد. كانت لديّ تفاصيل كثيرة يُمكن نعتها بالمحلية، لكني لطالما بحثتُ عن تيمات تعطي الفيلم طابعًا كونيًا. وضع السينما في كييف موضوع محلي، لذلك، أضفتُ إليه موضوع الشيخوخة، وقبول تلك الشيخوخة. هذا ما لفت انتباهي في البداية.
(*) هل هناك مبادرة في أوكرانيا للحفاظ على التراث المتمثّل في المباني والأماكن القديمة التي شهدت على تاريخها؟
- لا توجد خطّة لتدميرها على أيّ حال. أتحدّث من جانب الحكومة. لا توجد خطّة كهذه. أما على الصعيد الاقتصادي والتجاري، فالنفعية مُسيطرة. مَن اشترى الصالة لإقفالها رجل أعمال، لم يرَ فيها مشروعًا يدرّ الأرباح، لأنّه لا يوجد مشاهدون كثيرون يرتادونها.
برأيي، لم يتمّ الاستثمار بشكل جيد لاستحداث الصالة وآلات العرض، وهذه العناصر كلّها التي تجذب الأجيال الشابة. تركوا الصالة تموت من فرط الإهمال الذي لحق بها. استغرق احتضارها نحو عشرة أعوام. كان موتًا بطيئًا.
لكنّ أهل كييف ومواطنيها كانوا يحبّون هذه الصالة بشدّة، لأنْ لدى الجميع تقريبًا ذكريات فيها. لا يوجد شخص محبّ للسينما لم يدخلها، مرة واحدة في حياته على الأقلّ. إنّها عشّ ذكريات، وهدمها يعني هدم كمية من تلك الذكريات. إنّه اندثار لشبابِ كثيرين، ذلك أنّ نشاطات سينمائية كثيرة كانت تتّخذ من هذا المكان مقرًا لها. لم يرتدها كثيرون في الأيام العادية، لكنها كانت تشهد زحفًا جماهيريًا عند تنظيم مهرجان أو أسبوع سينمائيّ فيها. كانت العروض تجري بـ35 ملم، والـ"أكوستيك" فيها ممتاز.
(*) عُرض الفيلم في "مهرجان كارلوفي فاري الـ54" في فقرة الأفلام الوثائقية. لكنّي أراه روائيًا. ما رأيك؟
- شكرًا. أعتبر هذا الكلام إطراءً لي. أوافق على تصنيفك. هذا هو الأسلوب السينمائي الذي أردتُ اعتماده. نبذتُ حركات الكاميرا الاعتباطية، التي تنمّ عن اهتزاز الكاميرا طول الوقت لمنع انطباع زائف بالواقعية. لم أردْ التظاهر بالريبورتاج. أمضيتُ وقتًا طويلاً في موقع التصوير، ما جعلني أفهم الأمور التي تستحق أنْ تُصوَّر. انتظرتُ بعض المواقف التي ألفتها لتصويرها. أحيانًا كنتُ أفتعلها. أجدني أجهّز نفسي وأنتظر حدوثها. هذا يحتاج إلى تحضير كبير مع الشخصيات كي لا تنظر إلى الكاميرا، وسواها من التفاصيل العملية. بعد فترة، لم يعد وجودي في موقع التصوير مشكلة، بمعنى أنْ الشخصيات نسيت أنّي هنا، أراقبها وأصوّرها. هذا كله يحتاج إلى وقتٍ كثير، لكنّي سعيتُ إليه لاقتناصه. صوّرتُ الكثير، ولاحقًا اقتطعتُ المَشاهد كلّها التي لا تُعطي الانطباع بأنها روائية خالصة. من هنا، حصل هذا التداخل بين الروائي والوثائقي.
(*) معظم الفيلم تدور أحداثه في البيت والسينما، أي في أماكن مغلقة. فضلاً عن أنّك ركّزتَ، بشكل خاص، على العلاقة بين العارض وأمّه.
- نعم. هذه المَشاهد تُعبّر عن أهم لحظات حياته. أعتبرها لحظات الوعي على الخسارة. فهؤلاء، عندما يصلون إلى مثل هذا العمر، تزيد حساسيتهم على هذه الأشياء. أردتُ التقاط هذا الشعور فيهم، علمًا أنّي لمسته سابقًا عند أهلي. أرى العارض ديناصورًا وهو داخل الصالة الآيلة إلى السقوط، خصوصًا أنّ مهنته بدأت تختفي، ولن تصمد كثيرًا في وجه المتغيرات.
نعم. لم أصوّر تفاصيل مهنة العارض كثيرًا، بل نقلتُ النقاش إلى مكان آخر يعكس هذا الموت. فهو يموت معنويًا، وأمّه تموت جسديًا. لا أقدّم هذا كلّه على نحو تراجيدي، بل وددتُ تحويله إلى لحظة جمال. لحظة يحاول مَن يعيشها أن يُجمِّدها إلى الأبد.
(*) هل يُمكن القول إنّه فيلم عن الصمود عندما يبدأ كلّ شيء حولنا في الانهيار؟
- هذا صحيح. هناك في الفيلم شيء ممّا تقوله. وددتُ أنْ أرى كيف أنّ شخصا متمسّكا بالحياة سيتعامل مع التغييرات. كيف سيتقبّل لحظة التغيير، وكيف سيتعامل معها. كوني تابعته لفترة، أعرف تاليًا كيف سيكون ردّ فعله، وكيف سيؤثر هذا على صحّته. حياة التقاعد بعد سنوات عمل مديدة ليست سهلة. تحاول جلب معنى جديد لوجودك. بعضهم يجد هذا المعنى، وبعضهم لا.
(*) مَن هم السينمائيون الذين أثّروا فيك؟
- ألكسندر دوفجنكو حاضرٌ في ذهني دائمًا. شكرًا لطرحك هذا السؤال عليّ. صدف أنّ أول يوم تصوير تزامن مع عيد ميلاده. إنّه أيقونة السينما الأوكرانية. كان هناك عرض لفيلمه التحفة، "الأرض"، في الصالة نفسها. رأيتُ عالمًا داخل الصالة، وعالمًا آخر داخل "كابينة" العرض، حيث أناس يناقشون ويضحكون ويشربون، حدّ أنّه تمّ وضع نسخة رديئة للفيلم على أسطوانة "دي. في. دي." (ضحك). كان شيئًا عبثيًا ومُضحكًا في الوقت نفسه.
(*) هل سبق أنْ عُرض الفيلم في كييف؟
- لا. العرض الأول كان هنا في "مهرجان كارلوفي فاري". العرض الأوكراني الأول سيكون في "مهرجان أوديسّا الدولي"، في فئة المسابقة الروائية الوطنية. سنرى كيف ستجري الأمور.