تتشابه شخصيتا آرثر فْلِك (واكين فينيكس) وجودي غارلاند (رينيه زيلويغير) بسمات عديدة، أبرزها يتمثّل بوفرة الضغوط عليهما، في الاجتماع والعلاقات والواقع. وتتشابه شخصيتا كليف بووث (براد بيت) ونورا فاشاو (لورا دِرْن) بامتلائهما بكَمّ هائل ومبطّن من العنف والغليان والغضب، ينفجر بشكلين مختلفين: الأوّل بممارسة العنف فعلياً، والثاني بالاشتغال وفق ما تملكه من سلطة قانون، وقدرة هائلة على التحايل والتلاعب اللذين لا حدود لهما.
شخصيتا فْلِك وغارلاند تُشكّلان الوجه الإنساني لامرئ عاجز عن استكمال مواجهته ثقل اليومي وبشاعته، فتنتقل الأولى إلى القتل، وتذهب الثانية إلى الموت باكراً. شخصيتا بووث وفاشاو أكثر واقعية: الأولى تُكمِل حياتها بشكلٍ طبيعي، بعد اقترافها التعذيب والقتل بمعتدين على المنزل، والثانية تستمر في ممارسة وظيفتها محاميةً، غير عابئة بفضح سيرة موكّلتها وخفاياها، إرضاءً لنزوة التملّك والانتصار، بحجّة "مصلحة" موكّلتها.
اقــرأ أيضاً
ينتمي آرثر فْلِك، الذي يتحوّل لاحقاً إلى "جوكر" (تود فيليبس)، إلى طبقة اجتماعية فقيرة، يعاني أبناؤها قسوة الحياة في مدينة مضطربة ومُفكّكة وغير هادئة، وتنشأ "جودي" (روبرت غولد) غارلاند في بيئة فقيرة، وترضخ لتسلّط متنوّع الأشكال قبل بلوغ شهرة وأمجاد عبر الغناء والتمثيل، في عالمٍ يرتكز على الاستغلال من أجل أرباحٍ وسلطة. أما كليف بووث ("حدث ذات مرّة... في هوليوود" لكوانتن تارانتينو) فتابعٌ، يعمل بديلاً لممثل أفلام وسترن في مَشاهد خطرة، ويشتغل لحسابه في أمور حياتية يومية. ممارسته العنف ناشئةٌ من رغبة دفينة في ابتكار حالة خاصة به، وإنْ بدت متوافقة مع سياق يُفترض به إيصال بووث إلى حالة العنف المباشر تلك. بينما تُظهِر نورا فاشاو ("قصّة زواج" لنواه باومباخ) وجهاً مبتسماً وألفةً واضحة وانتصاراً كبيراً لـ"حقّ" موكّلتها، وهذا كلّه يُخفِي شراسة وتلاعباً واحتيالاً وانعدام رأفة وتسامح، ما يجعلها أعنف من غيرها في تحقيق انتصاراتٍ لها على حساب الجميع.
الممثلون الأربعة فائزون بـ"أوسكار" التمثيل، في النسخة الـ92 (10 فبراير/ شباط 2020) لجوائز "أكاديمية فنون الصورة المتحرّكة وعلومها" (فينيكس وزيلويغر أفضل ممثل/ ممثلة، وبيت ودِرْن أفضل ممثل/ ممثلة في دور ثانٍ). هذا يعكس شيئاً من هواجس الأكاديمية وتصوّرات هوليوود. فالشخصيات غير الحقيقية، باستثناء المغنية والممثلة جودي غارلاند (1922 ـ 1969)، تبدو لصيقة بوقائع العيش في عوالم ومراحل مليئة بالارتباكات والتحوّلات، التي تُثير قدراً كبيراً من الخيبات والقسوة والانكسارات والمواجع والقلاقل. ورغم خروج كليف بووث من عنفه ونورا فاشاو من قسوتها من دون هزيمة ذاتية في الجسد والروح (أو هكذا يبدو على الأقلّ)، فإنّ دربهما لن يفضي بهما إلى هناء وسكينة، لما فيهما من غليان تفرضه المهنة والعيش في بؤر اجتماعية مليئة بالاستفزازات والتقلّبات. بينما يدخل آرثر فْلِك استوديو موراي فرانكلين (روبرت دي نيرو)، مقدّم برامج تلفزيونية للتسلية، كمن يدخل حلبة أخيرة له في الحياة، حيث يُقدِّم استعراضه الوحيد، الذي ينتظره هو فقط من دون غيره، لإعلان بيانه الأخير.
بهذا، تكون شخصيات جوكر وبووث وفاشاو مرايا تعكس حقائق ذوات فردية، منبثقة من عوالم واقعية، ومنصهرة في تفاصيل تُصيب أناساً كثيرين، تماماً كشخصية جودي غارلاند الحقيقية. وإذْ يوحي بووث بانصرافه إلى حياته بشكلٍ عادي، بعد ارتكابه عنفاً يليق بسينما كوانتن تارانتينو، وبجمالياتها وبراعتها في إثارة الضحك والسخرية في آن واحدٍ مع إثارتها النفور والخوف، فإن فْلِك، المتحوّل إلى جوكر، سيذهب بعيداً في ارتكاباته الجُرمية، في أفلامٍ "سابقة" على "جوكر" فيليبس، وسيتفوّق في عنفه وبشاعة عنفه أثناء مواجهاته الدامية مع بروس واين "باتمان"، أي مع الجانب "السمح" و"اللطيف" و"المتواضع" و"البريء" و"الخيِّر" للبشرية.
يصعب التغاضي عن اختيار عام 1981 تاريخاً لأحداث "جوكر". فالضعف والانكسار والتقوقع في الداخل الأميركي، وغيرها من صفاتٍ سلبية كهذه، سمة إدارة أميركية باهتة وضعيفة وساعية إلى سلامٍ مرتبك ومصالحات معلّقة إزاء مسائل السياسة والاقتصاد والاجتماع في الولايات المتحدّة الأميركية وخارجها، قبل دخول رونالد ريغان البيت الأبيض (20 يناير/ كانون الثاني 1981 ـ 20 يناير/ كانون الثاني 1989)، خلفاً لجيمي كارتر المنهزم والضعيف. أفعال ريغان ماثلةٌ في الأذهان والذاكرة والتاريخ إلى الآن. بينما يختار كوانتن تارانتينو ستينيات القرن الـ20 في الولايات المتحدّة الأميركية زمناً لـ"حدث ذات مرّة... في هوليوود"، بما فيها من انتفاضات وصراعات وتبدّلات وتشنّجات، تطرح كلّها تساؤلات جذرية في الفكر والثقافة والعيش والعلاقات والسينما. في حين أنّ "جودي" مطالب بمتابعة سيرة غارلاند في حياتها، الممتدة بين ثلاثينيات القرن نفسه وستينياته، وإنْ بالتزام سيرتها وتحدّيات عيشها واشتغالاتها وأهوائها ومصائبها.
وإذْ يتغاضى "قصّة زواج" عن زمنٍ ما للأحداث، إلّا أنّه ينتقل بين نيويورك ولوس أنجيليس، كما بين المسرح وصناعة الصورة المتحرّكة (سينما وتلفزيون)، في مناخٍ عابقٍ بحدّة المواجهة بين زوجين يريدان طلاقاً بعد عيشٍ مبنيّ على أوهامٍ، أو على ما يوحي بحقائق ومشاعر جميلة بينهما.
4 أفلام تستعيد أزمنة ومحطات ومشاغل، وتروي قصصاً عن الحب والفشل والخيبات والقلاقل والفن والانقلابات، وتُصوّر عوالم مليئة بالبغض والضغوط والانكسارات، وتشي بآمالٍ مبطّنة أو بآفاقٍ مُشوّهة لأناسٍ يجدون أنفسهم في دوّامة خانقة من الانفعالات والاضطرابات والأحلام المجهضة والمشاعر الموؤودة والرغبات المقتولة. وإذْ يخلو "جوكر" من أيّ جاذب سردي أو درامي، باستثناء حِرفية تمثيل (فينيكس)، تسقط أحياناً قليلة في الملل والتكرار، فإنّ براد بيت يُقدّم دوراً صائباً في تلاعبه الفني والدرامي والإنساني بين حالاتٍ وعلاقاتٍ ومفاصل، وتمنح لورا دِرْن شخصية المحامية القاسية أبعادها المعتادة في مهنة المحاماة. ومع رينيه زيلويغر، تبدو جودي غارلاند كأنّها هي الحاضرة مجدّداً في المشهد.
ينتمي آرثر فْلِك، الذي يتحوّل لاحقاً إلى "جوكر" (تود فيليبس)، إلى طبقة اجتماعية فقيرة، يعاني أبناؤها قسوة الحياة في مدينة مضطربة ومُفكّكة وغير هادئة، وتنشأ "جودي" (روبرت غولد) غارلاند في بيئة فقيرة، وترضخ لتسلّط متنوّع الأشكال قبل بلوغ شهرة وأمجاد عبر الغناء والتمثيل، في عالمٍ يرتكز على الاستغلال من أجل أرباحٍ وسلطة. أما كليف بووث ("حدث ذات مرّة... في هوليوود" لكوانتن تارانتينو) فتابعٌ، يعمل بديلاً لممثل أفلام وسترن في مَشاهد خطرة، ويشتغل لحسابه في أمور حياتية يومية. ممارسته العنف ناشئةٌ من رغبة دفينة في ابتكار حالة خاصة به، وإنْ بدت متوافقة مع سياق يُفترض به إيصال بووث إلى حالة العنف المباشر تلك. بينما تُظهِر نورا فاشاو ("قصّة زواج" لنواه باومباخ) وجهاً مبتسماً وألفةً واضحة وانتصاراً كبيراً لـ"حقّ" موكّلتها، وهذا كلّه يُخفِي شراسة وتلاعباً واحتيالاً وانعدام رأفة وتسامح، ما يجعلها أعنف من غيرها في تحقيق انتصاراتٍ لها على حساب الجميع.
الممثلون الأربعة فائزون بـ"أوسكار" التمثيل، في النسخة الـ92 (10 فبراير/ شباط 2020) لجوائز "أكاديمية فنون الصورة المتحرّكة وعلومها" (فينيكس وزيلويغر أفضل ممثل/ ممثلة، وبيت ودِرْن أفضل ممثل/ ممثلة في دور ثانٍ). هذا يعكس شيئاً من هواجس الأكاديمية وتصوّرات هوليوود. فالشخصيات غير الحقيقية، باستثناء المغنية والممثلة جودي غارلاند (1922 ـ 1969)، تبدو لصيقة بوقائع العيش في عوالم ومراحل مليئة بالارتباكات والتحوّلات، التي تُثير قدراً كبيراً من الخيبات والقسوة والانكسارات والمواجع والقلاقل. ورغم خروج كليف بووث من عنفه ونورا فاشاو من قسوتها من دون هزيمة ذاتية في الجسد والروح (أو هكذا يبدو على الأقلّ)، فإنّ دربهما لن يفضي بهما إلى هناء وسكينة، لما فيهما من غليان تفرضه المهنة والعيش في بؤر اجتماعية مليئة بالاستفزازات والتقلّبات. بينما يدخل آرثر فْلِك استوديو موراي فرانكلين (روبرت دي نيرو)، مقدّم برامج تلفزيونية للتسلية، كمن يدخل حلبة أخيرة له في الحياة، حيث يُقدِّم استعراضه الوحيد، الذي ينتظره هو فقط من دون غيره، لإعلان بيانه الأخير.
بهذا، تكون شخصيات جوكر وبووث وفاشاو مرايا تعكس حقائق ذوات فردية، منبثقة من عوالم واقعية، ومنصهرة في تفاصيل تُصيب أناساً كثيرين، تماماً كشخصية جودي غارلاند الحقيقية. وإذْ يوحي بووث بانصرافه إلى حياته بشكلٍ عادي، بعد ارتكابه عنفاً يليق بسينما كوانتن تارانتينو، وبجمالياتها وبراعتها في إثارة الضحك والسخرية في آن واحدٍ مع إثارتها النفور والخوف، فإن فْلِك، المتحوّل إلى جوكر، سيذهب بعيداً في ارتكاباته الجُرمية، في أفلامٍ "سابقة" على "جوكر" فيليبس، وسيتفوّق في عنفه وبشاعة عنفه أثناء مواجهاته الدامية مع بروس واين "باتمان"، أي مع الجانب "السمح" و"اللطيف" و"المتواضع" و"البريء" و"الخيِّر" للبشرية.
يصعب التغاضي عن اختيار عام 1981 تاريخاً لأحداث "جوكر". فالضعف والانكسار والتقوقع في الداخل الأميركي، وغيرها من صفاتٍ سلبية كهذه، سمة إدارة أميركية باهتة وضعيفة وساعية إلى سلامٍ مرتبك ومصالحات معلّقة إزاء مسائل السياسة والاقتصاد والاجتماع في الولايات المتحدّة الأميركية وخارجها، قبل دخول رونالد ريغان البيت الأبيض (20 يناير/ كانون الثاني 1981 ـ 20 يناير/ كانون الثاني 1989)، خلفاً لجيمي كارتر المنهزم والضعيف. أفعال ريغان ماثلةٌ في الأذهان والذاكرة والتاريخ إلى الآن. بينما يختار كوانتن تارانتينو ستينيات القرن الـ20 في الولايات المتحدّة الأميركية زمناً لـ"حدث ذات مرّة... في هوليوود"، بما فيها من انتفاضات وصراعات وتبدّلات وتشنّجات، تطرح كلّها تساؤلات جذرية في الفكر والثقافة والعيش والعلاقات والسينما. في حين أنّ "جودي" مطالب بمتابعة سيرة غارلاند في حياتها، الممتدة بين ثلاثينيات القرن نفسه وستينياته، وإنْ بالتزام سيرتها وتحدّيات عيشها واشتغالاتها وأهوائها ومصائبها.
وإذْ يتغاضى "قصّة زواج" عن زمنٍ ما للأحداث، إلّا أنّه ينتقل بين نيويورك ولوس أنجيليس، كما بين المسرح وصناعة الصورة المتحرّكة (سينما وتلفزيون)، في مناخٍ عابقٍ بحدّة المواجهة بين زوجين يريدان طلاقاً بعد عيشٍ مبنيّ على أوهامٍ، أو على ما يوحي بحقائق ومشاعر جميلة بينهما.
4 أفلام تستعيد أزمنة ومحطات ومشاغل، وتروي قصصاً عن الحب والفشل والخيبات والقلاقل والفن والانقلابات، وتُصوّر عوالم مليئة بالبغض والضغوط والانكسارات، وتشي بآمالٍ مبطّنة أو بآفاقٍ مُشوّهة لأناسٍ يجدون أنفسهم في دوّامة خانقة من الانفعالات والاضطرابات والأحلام المجهضة والمشاعر الموؤودة والرغبات المقتولة. وإذْ يخلو "جوكر" من أيّ جاذب سردي أو درامي، باستثناء حِرفية تمثيل (فينيكس)، تسقط أحياناً قليلة في الملل والتكرار، فإنّ براد بيت يُقدّم دوراً صائباً في تلاعبه الفني والدرامي والإنساني بين حالاتٍ وعلاقاتٍ ومفاصل، وتمنح لورا دِرْن شخصية المحامية القاسية أبعادها المعتادة في مهنة المحاماة. ومع رينيه زيلويغر، تبدو جودي غارلاند كأنّها هي الحاضرة مجدّداً في المشهد.