عندما اجتمعت جوقة كاتدرائية برلين للتمرينات في التاسع من آذار/مارس، كان فيروس كورونا المستجد لا يزال مصدر قلق بعيد، مع وجود أقل من 50 إصابة مؤكدة في العاصمة الألمانية. لكن بعد خمسة أيام، اتصلت إحدى مرنمات الفرقة بقائدها توبياس برومان، لتخبره بأن نتيجتها جاءت موجبة بـ"كوفيد-19".
وفي غضون أسبوعين، تبيّن أن نحو 30 عضواً أصيبوا بالفيروس و30 آخرين يعانون من أعراضه، بمن فيهم برومان الذي أصيب بصداع وسعال وحمى. وقال برومان لوكالة "فرانس برس" إنه "لا يمكننا التأكد من ما إذا كان الأشخاص الذين لم تظهر عليهم أعراض مصابين أم لا، لأننا لم نجر اختبارات أجسام مضادة".
ظهرت قصص رعب مماثلة من جوقات في كل أنحاء العالم، بما في ذلك واحدة في أمستردام، حيث ورد أن 102 من المغنين أصيبوا بـ"كوفيد-19".
نشاط خطر
ورغم عدم فهم الكثير حول طريقة انتشار فيروس كورونا الجديد، فإن الأدلة التي ترتكز على الروايات المتناقلة كانت كافية لإقناع السلطات الألمانية بأن الغناء نشاط خطر جداً في خضم هذه الأزمة. وفي ظل هذه المرحلة من بدء رفع إجراءات الإغلاق تدريجياً في أنحاء البلاد، أصبح ممكناً للألمان مقابلة الأصدقاء في الحديقة وارتياد المطاعم وممارسة الرياضة والذهاب إلى الكنيسة والتجول في المتاجر ومشاهدة كرة القدم وحتى الذهاب للسباحة.
لكن الغناء لا يزال محظوراً على نطاق واسع، ويبدو أنه من المرجح أن يبقى على هذه الحال في المستقبل المنظور. وفي توصيات استئناف القداديس، الصادرة في إبريل/نيسان، ذكرت الحكومة الفيدرالية أنه ينبغي تجنب الترنيم، بسبب "الزيادة المحتملة لإنتاج قطرات معدية محتملة يمكن انتشارها على مسافات أكبر".
واستجابت ولايات عدة للنصيحة، وحظرت الترانيم في القداس. حتى أن مركز السيطرة على الأمراض في "معهد روبرت كوخ" الألماني حذر من الغناء، وقال رئيسه لوثار فيلير إن "القطرات تنتقل إلى مسافات بعيدة، خصوصاً عند الغناء".
جزيئات معدية
تستند هذه المخاوف جزئياً إلى حقيقة أنه عند الغناء كما شرح برومان، "تأخذ شهيقاً وزفيراً بعمق، لذلك إذا كانت هناك جزيئات من الفيروس تطفو في الهواء يمكنها الوصول إلى الرئتين بسرعة نسبياً". لكن هناك أيضا أدلة تشير إلى أن الغناء ينتج نسبة كبيرة جداً من الجسيمات الدقيقة المعدية. ووفقاً لدراسة نشرت في دورية "نيتشر" العلمية عام 2019، فإن قول "آآ" لمدة 30 ثانية ينتج ضعف عدد هذه الجسيمات، وهي مماثلة للكمية التي تنتجها 30 ثانية من السعال المستمر.
وتخشى جوقات عدة أن يبدو مستقبلها قاتماً. وبعثت خمس جوقات ألمانية رسائل إلى الحكومة تخبرها بأن وجودها مهدد، وتطالبها بالتحرك لإنقاذها. في كنيسة الرسل الاثنى عشر في منطقة شونبرغ في برلين، لم تعقد تمرينات للجوقة منذ أوائل مارس/آذار. تغني السوبرانو هايكه بندا-بلانك (59 عاماً) في هذه الجوقة منذ 10 سنوات، وقالت "أفتقد الغناء. ما زال يمكنني الغناء في الحمام، لكن الأمر مختلف".
لكن بعض البحوث أعطت سبباً للتفاؤل. فقد نشرت "جامعة بوندسفير" في ميونخ دراسة، في أوائل مايو/أيار، تظهر أن الغناء يعرقل تدفق الهواء حتى مسافة نصف متر أمام المتلقي. كما نشر "معهد الطب المسرحي"، التابع لـ"جامعة فرايبورغ"، مبادئ توجيهية للغناء استند فيها جزئياً إلى دراسة أجراها في مدينة بامبرغ (جنوب) أظهرت نتائج مماثلة.
ومع ذلك، حذّر رئيس المعهد برنارد ريختر قائلاً "على عكس المتداول في بعض الأحيان، لم نجر أي قياس للرذاذ الجوي"، وهي جزيئات صغيرة لديها القدرة على الانتشار بشكل أكبر في الغرفة. ونشر المعهد مبادئ توجيهية محدثة هذا الأسبوع، تتضمن تحديد عدد الأشخاص في الغرفة ومدة التدريبات، وأوصى بالمحافظة على مسافة مترين بين الأشخاص والحفاظ على تهوية الغرف وفحص أعضاء الجوقة ووضع الكمامات.
وفي مقترحات أرسلت إلى السلطات، أيدت الكنيسة الكاثوليكية في ألمانيا "الغناء الهادئ" خلال القداديس، بالإضافة إلى تحديد عدد المصلين ومطالبتهم بالوقوف على مسافة 1.5 متر من بعضهم بعضاً، رغم أن الكنيسة البروتستانتية ما زالت تنصح بحظر شامل لهذه المراسم.
لكن الأخطار المحتملة للغناء عادت إلى الواجهة مجدداً هذا الشهر، بعد تفشي الفيروس بين أعضاء جوقة كنيسة في فرانكفورت حيث كانوا يرنمون ولا يضعون كمامات. وقد أصيب ما لا يقل عن 40 شخصاً بينهم، وبلغت الإصابات الإجمالية 112.
ويمكن للغناء أيضاً أن يتسبب في نشر الفيروس، خلال أحداث كبيرة مثل حفلات موسيقى الروك ومهرجان "أكتوبرفست" الذي يعتبر الغناء فيه جزءاً أساسياً، وهو أحد الأسباب المنطقية وراء إلغاء نسخته للعام 2020.
(فرانس برس)