أعلنت شركة أمازون، أخيراً، أن "أليكسا"، الجهاز المساعد الخاص بها، سيمنحنا القدرة على مخاطبة الموتى. بالطبع، الموضوع ليس بهذه العجائبيّة؛ فالمقصود بـ"مخاطبة الموتى" هو إمكانيّة جعل "أليكسا" قادرة على محاكاة صوت أي شخص ميت بمجرد الاستماع إليه وهو يتحدث لأقل من دقيقة.
الحجة وراء ذلك أن كثيرين فقدوا أحباءهم خلال جائحة كورونا. وبهذا الأسلوب، يمكن الحفاظ على ذكراهم وحضورهم بيننا. لكن، هل نريد فعلاً أن يبقى من قضوا وغادروا هذا العالم، بيننا؟ والأهم: لماذا التركيز على الموتى فقط؟ إن كان بإمكانها محاكاة صوت أي شخص، لم لا نختار نحن صوت من نحب أو نكره؟
لن نحاول الإجابة عن كل التساؤلات السابقة، بل سنركز على الموتى وأصواتهم. ففي استعادتهم، وحضور طيفهم عبر الصوت، نوع من تعليق الحداد، خصوصاً أن الصوت والكلمات، تخلق حضوراً مستمراً في حياتنا، فعادة ما يتصف الموتى بأنهم صامتون (على شعرية العبارة)، نقرأ آثارهم، وكلماتهم، وتسجيلات قديمة ينطقون بها.
لكن، في حالة "أليكسا"، هم شبه أحياء، لا نسمع فقط أصواتهم، بل نحدثهم، نطلب منهم أموراً، ونتفاعل معهم، ما قد يهدد الحداد على من رحلوا، والتسليم بغيابهم الكلي الذي يعتبر جزءاً من تعافينا من صدمة موتهم. أما في حضور الصوت، فنحن أمام شأن شكسبيري. قد تكون هذه مبالغة، لكن هل من المعقول أن نحيا مع أطياف من رحلوا؟ أن نحدثهم ويحدثونا؟
هناك مخاوف أخرى مرتبطة بهذه التكنولوجيا، ترتبط بالألفة. أصوات الذكاء الاصطناعي والحواسيب معروفة، لا نصدقها، كلامها لا يمتلك الانسيابية الكافية لـ"نصدقه". لكن، ماذا لو أنتجت هذه التكنولوجيا صوتاً نعرفه؟ ماذا لو أتقنت نطق كلمات من رحلوا؛ أب، أم، أخ، حبيب، حبيبة، صديق... إلخ. نسأل عن الأمر كونه مثيراً للقشعريرة. ناهيك عن أنه أيضاً مبتذل. أيمكن أن يتحول صوت من مات إلى وسيلة لشراء البقالة وتحميل الموسيقى والكتب؟
هناك نوع من التسليع لا يمكن تجاهله في هذه التقنية، وكأن "أمازون"، الشركة العابرة للقارات، المُتهربة ضريبياً، المنتهكة لحقوق العمال، تريد الاستثمار في الموت، وذكرياتنا حول من رحلوا وما نمتلكه من آثار؛ أي بيانات خام، لم تعد صالحة للاستخدام نظرياً. إلا أنه مع هذه التكنولوجيا، يصبح الموتى أنفسهم "سلعة"، بالإمكان إعادة تعليبها وبيعها لنا.
نعود إلى الحداد، كون الأمر حالياً ينتمي إلى الخيال العلمي. لكننا لم نصل بعد إلى تلك اللحظة التي يفقد فيها الموت قدرته على النفي الكليّ لمن رحلوا، ما يفتح المجال أمام العديد من السيناريوهات، التي يمكن وصفها بداية بـ"السيئة"، إن لم نرد المبالغة. ماذا لو استعاد أحدهم صوت قاتل؟ أو متحرش بأطفال؟ ماذا لو تحولت هذه التقنية إلى مساحة لاستعادة أولئك الذين لا نريد أن نتذكرهم... بهذا نحن أمام سيناريوهات لامتناهية في ما يخص هذه الميزة الجديدة، ولا نعلم كيف سيتم ضبطها والتحكم بكيفية إنتاج الأصوات عبرها.
هناك سؤال بخصوص الكرامة الإنسانية، إذ يبدو أن حرمة الميت ما زالت مسألة معلقة؛ فالأسلوب الذي ستعمل وفقه هذه الميزة قائم على الحوار، أي لن يتم استعادة تسجيلات سابقة، بل توليد جمل وأصوات جديدة، بالتالي خزان جديد من الجمل والمفردات. لن نتبنى المقاربة التي تقول إن الذكاء الاصطناعي الواعي بذاته قريب "الولادة"، لكن ماذا لو حذف أحدهم هذه التسجيلات أو الأصوات، هل سيُعتبر قاتلاً؟ ألن يشكل الصوت الجديد ارتباطاً عاطفياً ما مع من يستمع إليه، جاعلاً "أليكسا" تتحول إلى فرد؟ الأهم، أليست حرمة الموتى أساسها منع "التحكم" بهم بعد وفاتهم، بالتالي، هل يمكن القول إن استخدام أصواتهم انتهاك لحرمة أجسادهم؟ والأهم، هناك بعض الأصوات المحمية بحقوق الملكيّة، هذه كيف سيتم التعامل معها؟ أم هي مباحة للجميع؟