5 أفلام وثائقية عربيّة تُعرض في الدورة الـ7 لـ"أيام فلسطين السينمائية"، المُقامة بين 20 و26 أكتوبر/تشرين الأول 2020، في القدس ورام الله وبيت لحم وغزّة وحيفا. إنتاج تلك الأفلام عائدٌ إلى عام 2019، باستثناء "صيف غير عادي" للفلسطيني كمال الجعفري، المُنتج عام 2020. المشترك بينها كامنٌ في تفعيل صورة وثائقية، تستفيد من مفردات السينما، بما يجعلها مرايا ذاتٍ واجتماعٍ ومرويّات شفهية، تُصبح ـ في تلك الأفلام ـ شهادات موثَّقة سينمائياً عن حالةٍ أو انفعالٍ أو قولٍ أو هاجسٍ أو تأمّل.
الذاتيّ فيها منطلقٌ لقراءات جمّة عن تاريخٍ وبيئات وأناسٍ وتفاصيل، في سردٍ حكائيّ بصري، وتتحوّل إلى نصٍّ يخرج من آنيّته، المحمّلة بكمّ من المشاعر والحميميات والتساؤلات، إلى مسارٍ ومحطّات وأمكنةٍ. المصرية ماريان خوري (إحكيلي) تحاور ابنتها سارة، محرّضة إياها كتحريضها لنفسها على بوحٍ واعترافٍ وأسئلة. المنتجة والمخرجة تنتقل إلى موقع الأم والصديقة، فالحوار طويل، والهواجس كثيرة، والتنقيب في ماضٍ (بعيد وقريب) يُثير متعاً، تبدأ بجمع المتناثر هنا وهناك، لترميمٍ يصلح لأنْ يكون مرآة ومساحة، فالأولى تعكس مخبّأ أو مستوراً أو مبطّناً أو منسياً، والثانية تُتيح لهذا كلّه حيّزاً للكشف والتعرية والاغتسال. حوار غير تقليدي، كأنْ يكون أحد الطرفين سائلاً والآخر مُجيباً، فاللعبة التي تريدها ماريان خوري تكمن في تبادل الدورين، وفي تغيير الموقعين، وفي وضع المرآة بينها وبين سارة كمدخلٍ إلى تلك المساحة، الحياتية والتاريخية والسينمائية، المفتوحة أمام أمّ وابنتها، وهما ينتميان إلى السينما.
الذاتيّ، في "بيروت المحطّة الأخيرة" للّبناني إيلي كمال، محصورٌ في فتح ذاكرة جماعية على خصوصيات بلدٍ وتحوّلاته، منذ عام 1895، مع أول قطار يسير على سكّة حديدية في لبنان. لحظة أولى تُطلق مساراً من التفاصيل المروية بصُور مُلتقطة خلال التصوير، وبأخرى منتقاة من أرشيف مُسجَّل، تُروى كلّها بتعابير وجُملٍ مكتوبة على جدرانٍ باهتة، في محطّات مليئة بالغبار والنسيان والذكريات. الذاتيّ ينعكس في علاقة المخرج بالسكك الحديدية في طفولةٍ ومراهقة، قبل أنْ يعثر فيها على دروبٍ، تذهب إلى الماضي لتبيان شيءٍ من خفاياه ووقائعه، وتأتي إلى الحاضر لتُبرز بعض أهواله وانكساراته وتحوّلاته. والتوليف (إيلي كمال، كاتب السيناريو أيضاً)، إذْ يُحيل الموثَّق والمُصوَّر إلى متتالياتٍ تُعبِّر بالصمت غالباً عن مسارٍ ومصير، يُساهم في جعل الوثائقيّ ترميماً لذاكرة وحكاياتٍ.
وإذْ ينحسر الذاتيّ، في "بيروت المحطّة الأخيرة"، إلى أضيق تعبير وأبسطه وأكثره تواضعاً (فالنصّ مفتوح على ما هو أوسع منه)، يتحوّل السرد الوثائقيّ إلى روايةٍ متسلسلة تاريخياً، ومفعمة بلحظات مصيرية يعاني البلد وناسه تداعياتها المختلفة، وبعض تلك التداعيات قاتل ومخرِّبٌ وموتور. ففي تلك المتتاليات، تحضر الحروب بصمتٍ، لأنّ الصُور أبرع قولاً من كلّ كلام. الاحتلالات فيها واضحةٌ، كالانهيارات والخيبات والمصائر المعطّلة في راهنٍ موبوء. سرد تلك الحكايات بالصُور والتعليقات (ومعظمها مكتوبٌ هنا وهناك) كافٍ لاختزالٍ مكثّف لتاريخ بلد وناسه، والاختزال مُحرّرٌ من كلّ خطابٍ وتفسيرات وتبريرات وإضافات.
الذاتيّ أيضاً ركيزة أساسية ووحيدة لـ"صيف غير عادي" للجعفري. تسجيلات مُصوّرة، يعثر عليها المخرج في مخبأ لوالده الراحل عام 2015، تتحوّل إلى سيرة تمزج العائليّ بمحيطه الجغرافي والبشري والاجتماعي والتاريخي. كاميرا مراقبة يضعها الوالد على شرفة منزل، لكشف محطّم زجاج سيارته، الواقفة أمام المبنى. هذا كافٍ لبناء سينمائيّ ينبثق من تمرينٍ على جعل التوليف (الجعفري وسايبوم كيم) صانِعَ فيلمٍ، باستخدامه أشرطة مُصوّرة بتقنية كاميرا المراقبة، التي يحافظ عليها الجعفري رغم تحويله إياها إلى سرديّة تبلغ، في روايتها المُصوّرة أحوال شارع وناسه وأهل وجيرانهم، مرتبة التأريخ البصريّ لحالة وبيئة وأفرادٍ، مُطعِّماً هذا كلّه بمقتطفات من تاريخ بلدة، وعلاقة المخرج بها.
التسجيلات المستخدمة في "صيف غير عادي" مأخوذة من كاميرا ثابتة في مكانها، رغم أنّ صُوراً عدّة تبدو كأنّ الكاميرا نفسها تتحرّك بين لقطات قريبة وأخرى بعيدة، في تلاعبٍ سينمائي يُضفي على المشهد بعض الحيوية، ويؤكّد براعة التوليف في كتابة نصٍّ كهذا بفضل أشرطة قديمة. أما التعليق الصوتيّ، فامتدادٌ لوفرة تلك اللقطات المُسجّلة، واكتمال بها ومعها في منجز بصري يحافظ على خصوصية عائلية وينفتح، في الوقت نفسه، على يوميات أفرادٍ وتفاصيل سلوكهم اليومي.
في مقابل هذا كلّه، يتحوّل الذاتيّ، في "فارس الحلو.. حكاية ممثل خرج عن النصّ" للسوري رامي فرح و"الحديث عن الأشجار" للسوداني صهيب قاسم البادي، إلى مزيجٍ من رغبة مخرجٍ في توثيق سيرة أفرادٍ (بعضهم مخرج هو أيضاً)، وتوق المخرج نفسه إلى كتابة شيءٍ من ذاته في طيات المرويّ عن الشخصيات الوثائقية. وإذْ تغلب شخصية الممثل السوري فارس الحلو على سينمائيّة الوثائقيّ، المتواضع شكلاً في مرافقته الحلو لتوثيق سيرة المعارِض في بلده والمنفى، فإنّ القاسم البادي يبدو كأنّه يتماهى مع "المخرجين المتقاعدين"، إبراهيم شداد ومنار الحلو وسليمان محمد إبراهيم والطيب مهدي، في رسم صورة حيّة عن زمنٍ، بتحوّلاته وانقلاباته، كما بخرابه ورغبات بعض ناسه في الخروج من هذا الخراب، وبأحلامٍ موؤودة سابقاً وراهناً.
وثائقيات "أيام فلسطين السينمائية الـ7" تُشكِّل، رغم تفاوتها السينمائي، مادة غنيّة بمعطيات بصرية ومواد أرشيفية ولحظات إنسانية، كافية لتأريخ زمنٍ، وفهم راهنٍ، والتأمّل في أحوال ذاتٍ ومحيطها.