تُجسِد "بايكة العمور" شرقي محافظة خان يونس، جنوبي قطاع غزة الفلسطيني المحاصر، حكايات عشرات السنوات التي مر بها الشعب الفلسطيني، وقد نُقشت على حجارتها القديمة، قصص أجيال تعاقبت، وتراث لا يزال حاضرًا في أروقتها. وينبعث من حجارة البايكة، عبق القِدم، وملامح الحياة القديمة لسُكانها، ومن مر بها، وقد عكست بجدرانها ذات اللون الرملي والبُني الداكن، وما تحتضنه من مقتنيات عتيقة، ملامح حضارة بدوية وقروية، لا يزال ورثتها يحافظون عليها، رغم تعاقب العقود.
وتعتبر "البايكة"، وهو الاسم الذي يطلق في الشام على المخازن الكبيرة، المكونة من قناطر تعلو أبوابها العديدة، ومجموعة من الأعمدة المتتابعة على طول خط مستقيم، موصولة بأقواس لحمل السقف المشترك، فيما تحمل في الكثير من الأحيان دلالات دينية أو تاريخية، وتشتهر مدينة القدس بـ "البوايك" القديمة، إلى جانب عدد من المدن الفلسطينية.
وتتكون بايكة العمور القديمة، من مبنى كبير، يضم بهوا، والعديد من الغرف، وأحواش البهائم، إلى جانب مخزن للغلة الزراعية، فيما بات يستخدم للجلسات العائلية، ويحاول القائمون عليه، حمايته من تغول عوامل الزمن عليه.
"البايكة" هو الاسم الذي يطلق في الشام على المخازن الكبيرة المكونة من قناطر تعلو أبوابها، ومجموعة من الأعمدة المتتابعة على طول خط، موصولة بأقواس
يقول قاسم العمور، القروي الذي ولد في بلدة الفخاري جنوب قطاع غزة، ويعمل مدرسًا، كما أنّه متخصص في علم المكتبات، إن عوامل التعرية أثرت على البايكة القديمة، ما دفعه إلى ترميمها بمساعدة أقاربه على مدار عام، حرصًا منهم على عدم تآكل البايكة شيئًا فشيئًا، بهدف الحفاظ على قيمتها التاريخية. ويعتبِر أهالي المنطقة بايكة العمور جزء أساسيا من تراثهم وهويتهم الفلسطينية، وفق تعبير العمور لـ "العربي الجديد"، إلى جانب كونها الشاهد الحي على كذب الرواية الإسرائيلية، التي تحاول على مدار الوقت تغييب الحقيقة التي تؤكد أحقية الفلسطينيين في أرضهم.
ويحاول صاحب البايكة قاسم العمور، رعايتها على مدار الوقت، فيما يخصص الوقت الكافي للجلوس بها، واسترجاع حكايات الماضي، مع سرد القصص التي مرت بها، دون التوقف عن سرد بطولة الأجداد لأولاده، وتفاصيل عملهم في البايكة، ومحتوياتها القديمة، والأنشطة التي كانت تدور في داخلها، فيما يؤكد على ضرورة مواصلة رعايتها، كواحدة من الأعيان التراثية الهامة.
ويختلف استخدام البايكة مع اختلاف مُلّاكها، حيث يقوم أصحابها من أهل البادية باستخدامها لأغراض زراعية، لتخزين البذور ومحاصيل الحصاد، إلى جانب كونها حاضنة لمستلزمات الإبل والأحصنة والحيوانات المختلفة، فيما تقتصر البايكة عند القرويين على السكن فقط. قام الجد عميرة علي العمور بتشييد البايكة بعد الهجرة القسرية التي تعرض لها هو وسُكان منطقة بئر السبع، على أيدي العصابات الصهيونية، وقد استخدمها منذ ذلك الحين في العديد من الاستخدامات، كان أبرزها تخزين الغلال من المحاصيل الزراعية والأعلاف، فيما بنى أحواش الأغنام والإبل والأحصِنة والدواب بشكل عام.
وبنيت بايكة العمور على الطراز الفلسطيني الخاص بالبيوت القروية، والتي تُمكِّن أهالي البادية من استخدامها لأداء أعمالهم، فيما كان يستخدمها القرويون للسكن، وقد استخدم بشكل أساسي "حجر الحثان" المتواجد في المناطق الشرقية لقطاع غزة، في بناء البايكة، إلى جانب الطين. وتحتضن جدران البايكة من الداخل، سيف الجد الذي زينت صورته المدخل، كذلك سيف قاسم العمور الذي صنع قبل تسعة عقود، وإلى جانبه بارودة، والعديد من القطع النحاسية القديمة، وبكارج القهوة والأدوات الفخارية، كذلك خُرج الجمال والأحصِنة، وشباك الجمل، والأدوات والأقمشة البدوية المطرزة والتي كانت تستخدم في بئر السبع، فيما تم تخصيص مساحة خاصة بالكتب مختلفة المواضيع السياسية والتاريخية، التي صُففت داخل فتحات في الجدران على هيئة رفوف، يطلق عليها أصحاب المكان "الطُلاقات".
وُبنيت البايكة على مساحة 300 متر مربع، فيما وصل سُمك جدرانها إلى نحو 60 سنتيمترا، وأُقفلت بأبواب خشبية، ونوافذ معدنية، إلا أن عوامل الزمن، والتعرية، أثرت في ما يزيد على ثلثي مساحتها، ما دفع الأحفاد إلى الحفاظ على إرث جدهم، الذي توفي عام 1957. ولم يتوقف تأثر البايكة على عوامل التعرية الطبيعية فقط، وإنما تعرضت للقصف الإسرائيلي المباشر خلال الحرب الإسرائيلية الثالثة على قطاع غزة عام 2014، ما أدى إلى تصدع أجزاء كبيرة منها، إلى أن قام الورثة بإعادة ترميمها عام 2019.
وقام أبناء وأحفاد الحاج عميرة العمور بتحويل البايكة إلى متحف صغير، يضم مقتنيات آبائهم وأجدادهم، في حين ما زالوا يحرصون على تجميع أي أثر يعبر عن الحضارة الفلسطينية، كدليل ملموس على أصحاب الأرض، وأصحاب المكان الحقيقيين. وما زال ورثة بايكة العمور، يحاولون حمايتها من الاندثار، إيمانا منهم بأنها "حلقة الوصل بين الجيل المُهجر من الأراضي والمدن الفلسطينية المُحتلة، والجيل الجديد، لما تحمله من دلائل وحجج على حق الفلسطينيين في أراضيهم ومدنهم وقراهم المحتلة".