نسخة هذا العام ستكون افتراضية معظم الأحيان، وواقعية حين تقتضي الضرورة. هكذا بات حال المهرجانات اليوم. مزجٌ بين واقع وافتراض، تفرضه رغبة في حضورٍ للسينما مهما تعقّدت الظروف. مهرجان "رؤى الواقع" السويسري، في نسخته الـ52 (15 ـ 25 إبريل/ نيسان 2021)، خرج من أجواء الشكّ التي تلفّ العالم، وقرّر تواجداً على الشبكة العنبكوتية، للسنة الثانية على التوالي، مع حضور واقعيّ أحياناً، ضمن مشاريع ثقافية مخصّصة للطلبة مثلاً، في دورة وُضعت فيها كلّ الإمكانيات لتكون "حدثاً خاصاً ومَعْلَماً للجمهور والسينمائيين على حدّ سواء"، كما كتبت ايميلي بوجس، المديرة الفنية لـ"مهرجان نيون".
في وصفها سياسة الاختيار الرسمي للعام الحالي، أكّدت بوجس على أفلامٍ تحتضن الحرية والذاتية، ولا تدّعي الشرح وإعطاء المعلومات، "كي تُترجم أكثر مشاعر وأحاسيس شخصية، وكي تُصبح بهذا أكثر كونية". خيارات أريد لها أنْ تكون "قوية وانتقائية"، لتسمح مرّة أخرى بإدراكِ استقلالية سينما الواقع المعاصرة وتحرّرها، التي (سينما الواقع) تحافظ على مسافة معقولة من الرهانات المتفرّدة للفيلم الروائي، وتعريفات للفيلم الوثائقي، تكون محدودة غالباً، وتمسّ جوهره وشكله.
مهرجان "رؤى الواقع" يستمد أهميته من خياراتٍ تجعله منارة على المستوى العالمي من جهة، ومشاركا رئيسيا في الإبداع السينمائي السويسري، لكونه المنصّة الأهم للفيلم المحليّ، من جهة أخرى. ما يُظهِر دور المهرجان في الاستكشاف، في مجالات سينما الواقع، عدد الأفلام الذي وصله، والذي حافظ على ثباته، رغم وباء كورونا. من 3000 فيلم، اختير 142 (41 بالمئة لمخرجات)، منها 82 فيلماً ذات "عرض عالميّ أول"، و16 ذات "عرض دولي أول" (أي أنّها عُرضت سابقاً، لكنْ في بلدانها فقط). هناك أيضاً 31 فيلماً أول.
ستُعرض معظم الأفلام افتراضياً، وتتوزّع على 4 مسابقات، إلى أقسامٍ وتظاهرات أخرى، منها تكريم الكاتب والمؤلّف السينمائي الفرنسي إيمانويل كارير، "ضيف شرف" المهرجان، الذي سيمنحه جائزة تقديرية. وكارير سيُعطي درساً سينمائياً، ويعرض فيلمه الوثائقي "عودة إلى كوتلنيتش" (2003)، بالإضافة إلى أفلامٍ من اختياره الشخصي.
تتضمّن المسابقة الدولية للفيلم الطويل 13 عنواناً، تنتمي إلى سينما معاصرة، بكلّ انفتاحها وابتكارها وتفرّدها في رصدها أحوال عالم معاصر، مليء بحروبٍ وصراعات وثورات. فلطالما كانت الحرب قدر البشرية. لكنْ، عبر العصور، ومع "التقدّم"، تغيّر شكلها، وزاد ظهور الذكاء الاصطناعي والرقمنة المفرطة للأسلحة من تغيير قواعد اللعبة. في النزاعات الجديدة، المتحكّم بها عن بُعد على نحوٍ متزايد، يبدو أنّ الجبهة تأخذ اليوم شكل شيطان جديد ومخيف، يقدّمه "بيلوم ـ شيطان الحرب"، لديفيد هيرديس وجورج جوتمارك (السويد/ الدنمارك). حروبٌ أخرى أكثر واقعية، في "فلسطين الصغيرة" لعبدالله الخطيب (لبنان/ قطر/ فرنسا)، الذي يسرد يوميات حصار مخيم اليرموك في دمشق من قِبَل النظام السوري، حيث المواجهات شرسة، ومقاومة فظائع الهجوم شجاعة. أما آفي مُغربي، فيوجّه ـ في "السنوات الـ54 الأولى، دليل مُختصر لاحتلالٍ عسكري"، القائم على لقاءات مع عسكريين إسرائيليين ـ "غضباً أخرس في مواجهة ما لا يُمكن تجاهله"، لأكثر من نصف قرن من الاحتلال الإسرائيلي، كما في كتيّب المهرجان.
مع الحروب، ومع ما قبلها أو بعدها، هناك ثورات الشعوب، ماضياً وحاضراً، كما في "1970" للبولندي توماس وولسكي، عن قمع تظاهرات العمّال في بولندا الشيوعية؛ و"شجاعة" لآلكسي بالويان (روسيا البيضاء/ ألمانيا)، وشهادات تاريخية قيّمة عن الثورات التي تبعت الانتخابات الرئاسية عام 2020.
في تنوّع المواضيع، اللافت للانتباه، يحضر الواقع الاجتماعي أيضاً، كما في "فايا داي" لجيسيكا بشير (أثيوبيا /قطر/ الولايات المتحدة الأميركية)، التي تقوم برحلة في جبال إثيوبيا، حيث تنتشر "ثقافة" نبتة القات؛ و"زيندر" لعائشة مكي (نيجر/ ألمانيا)، التي تتابع قصص شباب من مدينة زيندر متروكين لمصائرهم، فيقودهم انسداد الأفق إلى الانتظام في عصابات. بينما تحتوي قرية في فلوريدا على 54 ملعب "غولف"، و70 مسبحاً مخصّصاً لـ155 ألف ساكن، يسبحون في قوقعة من الرفاهية والانعزال عن العالم، يتناولها "الفقاعة" لفاليري بلاكنبيل (سويسرا/ النمسا).
لا تغيب العائلة عن اهتمام المخرجين، الشباب منهم خاصّة. في "الأولاد الرهيبون" لأحمد نجدت شبور (تركيا/ ألمانيا)، يوميات أسرة المخرج مع شباب يسعون يومياً، بإصرار، إلى الحصول على حريتهم واستقلالهم، في مواجهة سلطة أبوية متجذّرة. ويرسم "القمر يمثّل قلبي"، لخوان مارتين هسو (تايوان/ الأرجنتين)، لوحة عائلية، وبحثاً ذاتياً عن الجذور. وتتصوّر ناتاليا المدى، في "المستخدمون" (المكسيك/ الولايات المتحدة الأميركية)، مستقبل أطفالها في عالمٍ تكنولوجي، لتكتشف ـ بين الدهشة والرهبة ـ كم سيكون المجتمع مثالياً ومُرعباً.
أما مسابقة "أضواء مشتعلة"، التي تتحلّى بمفردات جديدة في الكتابة بحثاً عن تجريب في الشكل والسرد، فتحتوي على 15 فيلماً متوسط الطول وقصيراً، من أوروبا والولايات المتحدة الأميركية والصين ولبنان والأرجنتين. في "الريح فقط" (لبنان/ السويد)، ينطلق مخرجه كريم قاسم في رحلة من نيويورك إلى بيروت. بين صعوبة العودة إلى البلد، والمرض المزمن، والبحث عن فيلمٍ مستقبلي، هناك تصويرٌ للوضع في لبنان، وبحث عن معنى عبور هذه الأرض. ويوثّق "شظايا" (الأرجنتين)، لناتاليا جارايالدي، كارثةً في بلدها: حين كانت تبلغ 12 عاماً (1995)، انفجر مصنع للأسلحة، فوثّقت مع شقيقها الأصغر الحادثة، مزوّدَيْن بكاميرا فيديو خاصة بوالدهما. بعد 20 عاماً، أخرجت الأرشيف، واستخدمت صُوراً أخرى جديدة، لتتابع هجومها على الدولة، في حدثٍ لا يزال يترك رائحة الأمونيا في الهواء.
هناك أيضاً أفلام تروي احتضار حضارات، وعالم المستقبل المرعب، وعزلة الإنسان المعاصر، وفراغ محيطه، ومحاولاته لإعادة التواصل مع ما انقطع، ومواجهته بقوّة وشجاعة لا مثيل لهما معارك يومية لا تنتهي، تفرضها أنظمة جشعة، لا تهتمّ لا بإنسان ولا بطبيعة.
المسابقة الدولية للفيلم المحلي تضمّ 12 فيلماً طويلاً ومتوسط الطول، سويسرياً وذي إنتاجٍ مشترك مع سويسرا من 4 بلدان: إيطاليا وألمانيا وجمهورية التشيك والأردن. هذا الأخير شارك في إنتاج "ماء الحياة"، لبافيل بوريكو، عن النضال للحصول على الموارد المائية في قرى صحراء وادي رم. أما افتتاح المهرجان، فمعقودٌ على "الشافون"، الفيلم الأول للسويسرية ماري ـ أيف هلبراند.
بما أنّ "رؤى الواقع" يُعتبر واجهة مهمّة للأفلام القصيرة ومتوسّطة الطول، يخصّص مسابقة دولية لها، تتضمّن 37 فيلماً في عروضها الأولى. أما الأقسام الأخرى، غير التنافسية، فتتوزّع على "مدى"، بانوراما مفتوحة على الممارسات الحالية لسينما الواقع اليوم؛ و"زاوية واسعة"، الذي يعرض 11 فيلماً طويلاً سحرت الجمهور والمهرجانات، ومُهيّأة لـ"تسحره" مجدّداً، منها "كابتن الزعتري" لعلي العربي (مصر)، عن لاجئين سوريين يعيشان في مخيم الزعتري في الأردن، ويتدرّبان على تحقيق حلمهما بأنْ يُصبحا ذات يوم لاعِبَي كرة قدم مُحترِفَين. تنقلب حياتهما رأساً على عقب، عندما يتمّ اختيارهما للانضمام إلى أكاديمية الشباب المشرق في قطر. عندها، إما يُصبحان الأفضل، وإما يعودان إلى المخيم.