يعود ستيفن سبيلبيرغ بتحفةٍ بصرية: "قصّة الحي الغربي". في كلّ لقطة، ضوءٌ وظلّ. الضوء ـ الظلّ وسيلة بلاغية بصرية. يتمّ التركيز في الصُوَر ـ اللوحات ـ اللقطات على البُعد الثالث للصورة، وعلى العمق، فلا يقلّ غنى عمق اللوحة وخلفيتها عن غنى مقدّمتها، حيث يجري الحدث المسرود. في الخلفية، إضاءة فنية. في المقدّمة، شابّة سمراء وشاب أبيض في مواجهة تحدٍّ راقص. يمثّل وضع أنفٍ في مواجهة أنفٍ تحدّياً وتهديداً، لكنّ الشفاه الباسمة تُخفِّض التوتّر، وربما تلتقي. في مَشاهد كهذه، يُمكن قطع الصوت للاستمتاع بثراء الصورة المركّبة.
يحكي سبيلبيرغ، بالضوء واللون، قصّة مُطاردات شرسة في حي شعبي في نيويورك، يتزايد عدد سكّانه بسبب المهاجرين. النتيجة: صدامات، وقصّة حبّ تليق بتراجيديا شكسبيرية. رغم اللمسة التراجيدية، هناك ما يكفي من البهجة لمقاومة أجواء كورونا. البهجة الأكبر أنْ يُعرض الفيلم في الدار البيضاء، في اليوم نفسه لبدء عروضه الأميركية. ماذا خلف جرعة المُطاردات والأغاني، في فيلم مدّته 156 دقيقة؟
في الخلف، صورة نيويورك في منتصف القرن الـ20. يتكدّس المهاجرون الجدد في الأحياء القديمة، التي يهجرها سكّانها بعد تحسّن دخلهم. هذا عمقٌ اجتماعي للفيلم، الذي بدأ بكاميرا تنزل، ثم تصعد لعرض المكان في شموليته. تنزل الكاميرا من العام إلى الخاص، وعندما تنتهي الحكاية، تصعد من الخاص إلى العام. يبدأ الفيلم بلقطة استنباطية، وينتهي بلقطة استقرائية للمكان. يحيل عنوانه إلى مكان له أهمية كبيرة في أفلام ستيفن سبيلبيرغ، كما في "أمستايد" (1997)، حيث يجري الصراع في مركب في عرض المحيط الأطلسي، وفي "تيرمينال" (1994) الذي تجري وقائعه في صالة انتظار في "مطار جون أف كينيدي الدولي" في نيويورك.
يشتدّ النزاع في الحيّ الغربي بين اللاتين والبيض الفقراء. أجسادٌ شابة تتعرّض للاختبار أثناء الرقص. جرت محاولة لتنظيم مسابقة للرقص، على أمل أنْ تُنهي الصراع بين الأميركيين. هكذا صار الرقص حلاً درامياً لمواجهة اجتماعية. هناك أغانٍ فيها محاكاة ساخرة لمعاملة المهاجرين كمنحرفين من الشرطة والمحاكم. في النصف الثاني، تَقلّ الأغاني الاحتفالية، وتزداد مساحة الأغاني الفردية الدرامية.
يحكي سبيلبيرغ هذا بالضوء واللون. يفرح البشر بالألوان. هذا مُسلّم به في وصلات الإعلانات التجارية. لكنْ، للألوان في السينما دلالة درامية: أبيض ضد أسمر مهاجر. مهاجرات سمراوات يكدحن في محلات راقية، يرتادها البيض والشقر. يحكي سبيلبيرغ بالرقص للعين، وبالموسيقى للأذن. يحكي بالألوان. يُصَوّر موعداً غرامياً في كنيسة، تصير متحفاً. هنا، اكتشاف علاقة سبيلبيرغ بالتشكيل. يُصَوِّر زجاج النوافذ الملوّن: الأحمر يُعبّر عن العاطفة والحبّ، والبرتقالي يبثّ الطاقة والحيوية، والأصفر يمنح السعادة والأمل. في رقصات الشوارع، يُصَوّر لقطة انعكاس الضوء على ماء متحرّك ليلاً. يولِّد مؤثرات بصرية طبيعية مذهلة.
يصور ستيفن سبيلبيرغ ضوءاً ينبعث من عمق الكادر، وبلاطاً مُبلّلاً ليعكس الضوء، وحاجزاً يرتفع فتتغيّر الإضاءة، وضوءاً منخفضاً يجعل الظلال تبدو طويلة مُهدَّدة. في السينما، توجد الكاميرا دائماً في موقع محدّد. يُعتَبر اختيار الموقع ـ والمسافة التي تفصل عمّا سيُصوَّر ـ تعبيراً عن ذوق المخرج وفكره. تصوير مشهد وصول الشرطة إلى موقع الجريمة تحفة بصرية. هذا دليل حي على أنّ الإخراج تفكيرٌ وتعبيرٌ بالصُوَر عن المكتوب في السيناريو.
اقتبس سبيلبيرغ نصّاً معروضاً كمسرحية عام 1961، اقُتبس للسينما منذ 60 عاماً. ما الذي لديه ليقوله عن هنا والآن؟ كُتِب النصّ المقتبس حين كان اللون الأسود شتيمة، والكلام بالإسبانية ممنوعاً، في أميركا اليمينية البيضاء. نظراً إلى ما رافق انتخاب جو بايدن عام 2020، يبدو أنّ أميركا لم تُشفَ بعدُ من العنصرية. في أجواء كهذه، تقع التراجيديا بعد الغناء والحبّ. الحبّ عابر للطبقات والنساء، وفاعل مُخفّض للتوتّر والنزاعات. من يغرق في الكراهية، يستطيع أنْ يَقتُل. من موقع الكاميرا، ينحاز المخرج إلى تفتّح حبٍّ عابر للطبقات. الحبّ حياة، لا خطأ ولا صواب. يُقدَّم هذا كلّه في أداء مسرحي أوبرالي، بإضاءة سينمائية فذّة.
ستيفن سبيلبيرغ مخرج جماهيري. المطاردة عنصر رئيسي في أفلامه. هكذا يستنبط معنى القصّة من الصُوَر لا من الحوار. يُمكن حذف الصوت والمُشاهدة، من دون أنْ يضيع المعنى المُتفائل. لذلك، قدّم فيلماً رومانسياً راقصاً من طراز "ساندريلا" (2021)، لكاي كانون، الذي قدّم أيضاً بطلة سمراء. فيلمٌ راقص، لأنّ العالم يحتاج إلى البهجة، بعد عامين تقريباً من كورونا. تفهم أميركا ما يطلبه جمهور العالم، وتقدِّمه وتحقِّق إيرادات مالية مهولة بفضله، بدءاً من أفلام هوليوود، حتّى "غوغل" و"فيسبوك".
سبيلبيرغ مخرج يستهدف الجمهور الواسع، منذ "الفكّ المفترس" Jaws. كلّف الفيلم (1975) سبعة ملايين دولار أميركي، وحقّق ـ في عامه الأول ـ 470 مليون دولار أميركي، أي 67 مرّة ضعف ميزانيته. يحكي الفيلم قصّة عدو مفترس. لا يزال البشر يقاومون من يهدِّدهم بافتراسهم. كلّ قصّة ـ لا تساعدهم على قراءة تجاربهم المتجدّدة ـ تافهة. يؤكّد "الفكّ المفترس" أنّ القرش الذي يتحرّك في مياه ضحلة، قرش ميت. حتّى الفنان الذي يتحرّك في مياه ضحلة، من دون جمهور يموِّله، فنان ميت.
لا يزال "الفكّ المفترس" يُباع إلى اليوم في منصّات المُشاهدة. يقول كارل ماركس: "تصبح للفكرة قوّة، عندما تستولي على الجماهير". تصير لفيلمٍ قوّة، عندما يستولي على الجماهير. استولت أفلام سبيلبيرغ على الجماهير، وسحرتها، في نصف قرن، ولا تزال صامدة في شبّاك التذاكر.