يراوغ فيلم "قلوب أرجوانية جريحة" (Purple Hearts)، الذي بدأ عرضه قبل أيام على منصة نتفليكس، في تقديمه لحكاية رومانسية، تجمع بين مهاجرة من أصل لاتيني تدعى كاسي (صوفيا كارسن)، وجندي في جهاز مشاة البحرية الأميركية يدعى لوك (نيكولاس كالتزابين).
القصة قد تبدو ملتزمة - في تصاعد أحداثها - بالشكل الافتراضي للسيناريو. كراهية تجمع بين البطلين المتناقضين في التفكير والهوية، ستتوج لاحقًا بقصة حب ناجحة. وبالتالي، لدينا هنا قالب درامي اجتماعي رومانسي. المضمون له أبعاد أخرى. ليس الأمر بديهيًا. ماذا نقرأ في علاقة حب ستجمع بين مهاجرة وابن السلك العسكري للدولة التي لجأت إليها تلك الفتاة؟ كأنها علاقة بين الماء والنار. والمغلوب بينهما لن يخضع للمحاسبة الأخلاقية ومبدأ ميزان القوى، فهو أمر نسبي. لكن يمكن التنبه للقضية على أنها مسألة أخلاقية تستدعي مقاربة نظرية لمفهوم المواطنة من جهة، ومفهوم الدولة من جهة أخرى.
تعاني كاسي من وضع معيشي وصحي صعب. هي مصابة بداء السكري. بوليصة تأمينها منتهية وتحتاج إلى مئات الدولارات لتجديدها، وهو أمر يحتاج إلى أكثر من مجرد عمل في المقاهي الليلية لكي تدفع تكاليف إبر الأنسولين وبدل إيجار مسكنها المتواضع. حياة مرهقة، لكن الفتاة طموحة وذكية وستحاول إيجاد حل بمفردها من دون مساعدة والدتها الفقيرة، التي تعمل كممرضة مساعدة في أحد المستشفيات.
لوك شاب متقلب وحساس. ماضيه مع المخدرات كان وصمة عار جعلته على عداء مع والده المتقاعد. سيقرر الالتحاق بالبحرية الأميركية ليثبت لأبيه أنه يستطيع النجاح. لكن ديون المخدرات ستلاحقه، وهو في حاجة ماسة إلى النقود لينتهي من هذه المشكلة. الزواج هو الحل الأمثل للخلاص من هذا المشكلات.
سيتفق البطلان، مكرهين، على عقد قرانهما؛ لأن القوانين العسكرية تجيز لأفرادها تعويضات وخدمات ممتازة، ومن ضمنها التأمين الصحي ومعاش مرتفع وبدل سكن وبدل طلاق وغيره. إذاً هو زواج احتيالي مبني على مبدأ المنفعة المتبادلة. وإذا ما كشف الأمر، سيخضع الزوجان لعقوبات قاسية، منها الحبس والتسريح من الخدمة.
هذا السيناريو الشائك سيتبنى طروحات عدة تشكل في صلبها مراوغات فكرية وسياسية. أي سيكون هناك تهجان، عاطفي وأخلاقي، وسياسي، تحاول مخرجة العمل إليزابيث روزنباوم (Elizabeth Allen Rosenbaum)، من خلاله تفتيت بعض المفاهيم في مكان وترميمها في مكان آخر. الوصفة الحسية التي ستنتهجها لن تعدو أن تكون أكثر من تثبيط لعلاقة الإعلام والحريات السلبية أمام الرأي العام، دفاعًا عن وجهة نظر الحكومة الأميركية تجاه سياساتها الداخلية والخارجية.
قبل خوض البطلة في تجربة الزواج المزيف، نتعرف إلى بعض السمات الخاصة في شخصية الفتاة المهاجرة. فهي، أولًا، تملك موهبة الغناء والتأليف الموسيقي. هذه الموهبة ستتوج بالنجاح لاحقًا. ثانيًا، لدى كاسي معتقداتها الخاصة. فهي من المناصرين لقضايا السلم والعدل والمساواة. تدافع عن السلام وعدم حمل السلاح ونبذ الحرب، وتعلق على شرفة منزلها أعلاما في دلالة على مناصرة القضايا الإنسانية، مثل "حياة السود مهمة"، وكذلك العلم الخاص بالمثليين. هذا يعني أننا أمام شخصية ليبرالية.
سنتابع التحول التدريجي في شخصية الفتاة من وجهة نظر سينمائية إلى وجهة نظر عقائدية، لتبرز لدينا ملامح هذا التهجين بشكل سطحي ومبتذل حين تغلب النزعة القومية على النزعة الفردية باسم الحب والافتتان. فالمشهد الذي تقوم فيه البطلة بتعليق العلم الأميركي إلى جوار بقية الأعلام الأخرى، في نهاية القصة، هو نتيجة ساخرة تبررها مشاعر القومية وتأثيرها على المهاجرين، من خلال إفراز مشاعر وطنية وغرزها في فكر المهاجر. هذه مساحة أخلاقية يدعو إليها العمل لخلق مقاربة ثقافية تتجه نحو الشمولية الأميركية في نشر المفهوم القومي والحسي لأخلاق الولايات المتحدة الأميركية ومجتمعها، في سبيل حصد مشاعر متجانسة تجاه نظامها العسكري وبطولات جنودها وأفرادها.
بهذا، يراد من مشاركة البطل في الحرب في العراق استمالة مشاعر المشاهد على أن ما يقوم به الجنود هناك هو القضاء على الإرهابيين. وهذا من كلاسيكيات الخطاب السينمائي الأميركي الذي يدفعنا للتماهي مع تجربة بلاد العم سام الاجتماعية والسياسية والعسكرية. ولعل مشهد الجنود وهم يُرفّهون عن الأطفال العراقيين خير دليل على هذا الخطاب الذي يحاول انتزاع الصورة السلبية والاتهامات الموجهة لسياسات أميركا في الشرق الأوسط عمومًا، والعراق خصوصًا.
أثناء حفل الزواج، ستقع مشادة كلامية بين كاسي وأحد زملاء لوك الذي يحتفل بزواج صديقه؛ إذ يقول متحمسًا: "سنذهب لقتل العرب". لترد عليه البطلة: "العرب مجموعة عرقية وأنت تجعل الأمر يبدو كما لو أنك ستقتل كل من ينتمي إلى عرق معين". ينتهي الحديث بقول الجندي: "أنا أقاتل من أجل بلادي، ماذا تفعلين أنت بالتحديد؟". هذه المشادة تفرز وجهات نظر خاصة تحتمل تأويلات واضحة في طريقة معالجتها. لكن النتائج التي يخلص إليها العمل في التحولات الدرامية المتصاعدة، يبرهن لنا شكل التهجين الذي أشرنا إليه سابقًا. فالبطلة ستشاهد زوجات الجنود وأقاربهم وهم يودعونهم قبل السفر إلى العراق.
وستشعر بموجة مشاعر غريبة حانية تجاه هذا المشهد العاطفي، لتبدأ أولى ملامح التعاطف من قبلها تجاه حياة الجنود وما يكابدونه. وستلاحظ، لاحقًا، ومن خلال اتصالات الفيديو بينها وبين لوك، حالة الإرهاق والمعاناة التي يمر بها الجنود، وتعرضهم لخطر الموت والقتل لدرجة ستسأل نفسها: "رباه، لمَ لا نسمع عن هذه الأمور هنا؟".
وكأن لسان حال الفيلم يقول إن المهاجرين والمجتمع الأميركي على حد سواء لا يفقهون شيئًا تجاه ما يمر به الجندي الأميركي. هذه المشاعر ستحث البطلة على تأليف أولى أغنياتها التي ستمهد لها النجاح والشهرة، وستهديها لجميع الأبطال الأميركيين.
هكذا، ستتوالى مؤلفاتها ونجاحاتها بفضل الإلهام الذي تلقته من حبيبها. وهنا يبدو جليًا التوظيف المركب بين الخيال والحس في تعويم الحدث الناتج عن اقتداء المواطن أو المهاجر بجنود بلاده. وإن كشفت حيلة الزواج التي جمعت بين هذين البطلين، فإن التضحيات ستبقى مستمرة، وسيحمل لوك على عاتقه وحده وزر فعلتهما، ليزج بالسجن من دون أن تتعرض حبيبته إلى أي عقوبات. الحبيبة التي تحولت بشكل خيالي من ليبرالية إلى اشتراكية، لتصبح عبدة للنظام الأميركي منذ تسلمت جرعات الأنسولين وتأمينها الصحي.