في إحدى مقابلاته، يقول زيغموند باومان إن وسائل التواصل الاجتماعي ليست سوى غرف مغلقة تبقى الأصوات عالقة فيها. قد يكون كلام عالم الاجتماع البولندي مبالغاً فيه. وبالنسبة لكثيرين قد يدل على رفض عبثي لكل منتجات الحداثة المائعة. لكن تطبيق "كلوب هاوس" الجديد، والذي يلقى رواجاً في العالم العربي أخيراً، حتى الآن، ليس سوى ترجمة تقنية لما تحدث عنه باومان: غرف مغلقة يسمع فيها المشاركون أصواتهم، رغم أن التطبيق ما زال في بداياته، ويمكن إضافة الكثير إليه من الناحية التقنية. ستجد الآلاف في الغرف التي يمكن للمشترك أن يختارها بنفسه حسب الثيمة التي تثير انتباهه، وأحياناً قد يصل عدد المشاركين في جلسة واحدة إلى خمسة آلاف شخص. الراغبون بالحديث عليهم أن يرفعوا أيديهم افتراضياً (كما يحدث الأمر في تطبيق Zoom)، ويحق للمضيف أن يسمح لهم بالكلام، أو أن يؤجلهم. بالتالي، عليهم أن يبذلوا جهداً، إما داخله، وإما بكونهم قادمين إليه من منصات أخرى لكي يلفتوا الانتباه. وهذا منطقي لأنه لا يمكن أن يتحدث خمسة آلاف شخص دفعة واحدة، إلا في حديقة عامة، أو في استاد كرة قدم، أو في مجلس نواب يسيطر عليه رتل من النواب الشعبويين! حتى الآن، لا يزال التطبيق "نخبوياً"، ومحصوراً بمستخدمي "آيفون"، فيما يبدو للجميع حيلة من الحيل التسويقية، وهي حيلة قد تنطلي أحياناً على الذين يعرفون وجودها.
الوسائط تغيّر طريقة تشكيل الرأي العام ولكنها لن تصنع رأياً عاماً بديلاً
مثل جميع وسائل التواصل الاجتماعي، لن يكون الحديث عن "كلوب هاوس" كافياً، ولا يمكن أن يكون نهائياً. فما زال العالم – نسبياً – ولا سيما العالم العربي، في حالة "حجر" صحي، تتفاوت درجته بين بلدٍ وآخر، بسبب جائحة كورونا. وقد يكون هذا عاملاً مشجعاً، في بلد مثل لبنان، يحظى سكانه بهامش يتضاءل من الحرية، لكي يذهب الناس إلى النقاشات. هؤلاء الناس حتى الآن، ما زالوا من أصحاب الدخل الذي يخول/ خوّل لهم اقتناء "آيفون"، وفي الوقت ذاته، من المتمرسين على مواقع التواصل الاجتماعي، بفضل حصولهم على تعليم جيد، واعتقادهم بالانتماء إلى طبقة يمكن القول إنها وسطى. لكن كل ذلك مرشح للتغيّر في ظل "الشعبية" التي يبدو أن التطبيق بدأ ينالها. لا يلغي ذلك أن الذي يحب أن يتعرف إلى "بودكاست" جماعي متواصل، ويقيّم جودة المحتوى، عليه أن يذهب إلى "كلوب هاوس" لكي يفهم "اللعبة" بنفسه. ما يمكن قوله، في "الأسابيع الأولى" للتطبيق، هو أنه يبدو طموحاً، بوصفه وسيطاً قادراً على زحزحة هيمنة "فيسبوك" و"تويتر" قليلاً، وتحريك الطابع البيروقراطي لتطبيق "زوم". صحيح أنه لا يسمح بإمكانية التخصيص، عبر إنتاج تصميم شخصي، أو بروفايل خاص، لكنه يمنع الاختفاء خلف الكلمات، ويتيح هذه الخاصية عبر أداة جديدة: الصوت. ولا يعني هذا أن المشاركين يختبئون خلف أصواتهم، من دون أن يعني أن إطلاقها يعني وصولها إلى الأماكن المنشودة. رغم أنه منصة جديدة لتبادل الآراء بصورة أقل التباساً، إلا أن النتائج النهائية على تداخل "كلوب هاوس" مع المجال العام قد تتقاطع مع نتائج وسائل التواصل الاجتماعي عموماً، أي إنشاء غرف معزولة في المجتمع، نتيجة الحصول على معلومات محددة من مصادر موجهة، ومن أشخاص مختارين بعناية.
التطبيقات لم تصنع لأجل المستخدمين إنما لمراكمة ثروات
كما هو متوقع، خلف "كلوب هاوس" هناك "سيليكون فالي". هناك حسابات الربح، الربح، والربح الذي ينتهي. لدينا منصة كانت تقدّر قيمتها بمئة مليون دولار، ثم صارت فجأة تساوي مليار دولار أميركي. الأصوات أصوات في النهاية، تتحول إلى إلكترونات، وتذهب إلى الفضاء. الأسئلة عن مصدر هذه الأموال أو كيفية إنفاقها، تماماً مثل الأجوبة على تنويعاتها في مراوحتها بين الأيديولوجيا والحقيقة. كلاهما يتحول إلى صوت، إلى أصوات، تعيد تدوير الزوايا، أو الدوران في الزوايا، بواسطة تطبيق جديد، أو بتعديل على تطبيق قديم، بحيث يتم تسييل المجال العام، ونقله إلى عالم يمكن السيطرة عليه والتحكم به. إلكترونات تذهب إلى الفضاء. على سيرة سيليكون فالي، بدأ الأمر كله مع إيلون ماسك. وانهمرت المشاركات منذ مشاركته. أشخاص يفترضون أن إيلون ماسك شخص هام، وأنهم إذا سنحت لهم الفرصة، سيجنون الأموال هم أيضاً. فهو كان مثلهم، وبيل غيتس أيضاً. وهناك الكثير من الطموحين الذين آمنوا بأفكار آدم سميث وصلوا في النهاية إلى حيث وصل هؤلاء. صحيح أن عددهم أقل بكثير من الذين لم يصلوا، ولن يصلوا بسبب زملائهم الذين وصلوا قبلهم، لكن الباراديغم الذي يحكم العالم اليوم لا يحب هذه اللغة كثيراً، ولا يشجع على نقد المبادرة الفردية، والأفكار التي يعتبرها خلاقة. بهذا المعنى، يبدو "كلوب هاوس" خلاقاً بالنسبة لكثيرين، وجذاباً بالنسبة لآخرين، يعرفون أن هذه التطبيقات لم تصنع لأجلهم إنما لمراكمة ثروات. لكنهم يحاولون أن يتصرفوا بطريقة تتسق مع عامل القوة في الزمن، أي ألا يقاوموا. وتالياً، يمكنهم الاستفادة من هذه الوسائط، طالما أن الأرباح الهائلة التي تجنى، برأيهم ليست على حسابهم. في ظل هيمنة فيسبوك، لا يبدو أن الحديث عن الأرباح والخسائر هاماً للمشاركين. في هذا العالم، يبدو أن هذه مسألة تخص المبادرين وحسب.
المبادران، أو المؤسسان، يرتبطان بالصناعة التكنولوجية، وهما من أصحاب الخبرة في شركات كبيرة. فكرتهما تبدو خارجة من رحم هذا العالم، أي عالم ما بعد شبكات التواصل الاجتماعي. والهدف بطبيعة الحال هو مراكمة الأرباح. للوهلة الأولى، يبدو "كلوب هاوس" قادراً على مزاحمة فيسبوك، لكن الأخير حسب تقرير نشرته "نيويورك تايمز" بدأ بالفعل بمحاولة إنتاج خصائص جديدة، شبيهة بالخاصية التي يقدمها "كلوب هاوس". وبالتالي، هذا يدل على أن الفكرة قابلة للحياة، في ظل تخوف فيسبوك منها، وهو الموقع المعروف بقدرته على "احتواء" الأفكار المنافسة إما عبر شرائها (إنستغرام/ واتساب) أو عبر تقليدها (تيك توك/ سناب شات). بطبيعة الحال، ستسمع الطيبين في سيليكون فالي يتحدثون عن "تواصل اجتماعي"، وعن "مجتمع أكثر إنسانية"، عندما يقدّمون منتجاتهم. وغالباً يمكن للجميع الاستماع إلى مثل هذا الخطاب داخل الغرف المغلقة أيضاً. في المقابل، قد يسأل الكثيرون سؤالاً مزعجاً: هل سيجعل "كلوب هاوس" التواصل بين البشر أفضل؟ وقد يجيب معظمهم "ربما"، قبل أن يذهبوا إلى هناك. فهذا التطبيق، مثل وسائل التطبيق الاجتماعي عموماً، يعبّر عن طفرة الديناميكيات الجديدة في المجتمع، وتفوقها على الحسابات المنفردة، مثل الاقتصاد والمجتمع بحد ذاته والسياسة. من شأن "كلوب هاوس"، بأدواته في حال نجاحه، أو في الأثر الذي سيتركه عبر إدخاله خاصية الصوت إلى عالم التواصل الاجتماعي كأداة لا يمكن الاستغناء عنها في عالم يبحث البشر فيه عن أمكنة لأصواتهم، أن يغيّر طرائق تشكيل الرأي العام.
لوقت طويل، أخطأ معظم المحللين في تقدير العلاقة بين الرأي العام وبين وسائل التواصل الاجتماعي المهيمنة، في مبالغة دور الأخيرة بتشكيل الرأي العام. اليوم، وعلى عتبة دخول "الصوت" ببصمته المباشرة إلى هذا العالم، يبدو أننا بدأنا نفهم المسألة على نحو أوضح: هذه الوسائط ستغيّر طريقة تشكيل الرأي العام، ولكنها لن تصنع رأياً عاماً بديلاً. كذلك، لم يعد بإمكان دعاة الثقافة التقليدية والمثقف التقليدي تجاهل حقيقة أن الهويات الفردية أصبحت أكثير نضوجاً، حتى داخل الجماعات المسيّسة. لا يعني ظهور الصوت في "كلوب هاوس" أنه يظهر حراً، أو خالياً من تأثيرات الأيديولوجيا، أو أن المساحة خالية من الرقابة والمراقبين، لكن أيضاً تلك وظائف المجال العام، بشكلٍ عام. لم يعد ممكناً القول إننا أمام عالم جديد، بل أصبحنا في قلب هذا العالم. الوقت صار ضيّقاً، وعلينا تحديد خياراتنا، بين حماية أصواتنا، أو إنفاقها قبل أن تنتهي.