اختار "متحف التحرير ــ متحف الجنرال لوكليرك – متحف جان مولين" في باريس، صورة من أيام حصار مجزرة الكرنتينا (بيروت) للإعلان عن معرضه "مصوّرات الحرب". بالأبيض والأسود، وبيدي تلك السيدة المفتوحتين أمام مُسلح مُقنّع، وبالنيران المشتعلة والبيوت المحروقة في خلفية الصورة، احتلّت صورة المصورة الفرنسية فرنسواز ديمولدير (1947 – 2008)، صفحة المعرض الرئيسية على الإنترنت.
صباح يوم 18 يناير/ كانون الثاني من عام 1976، التقطت ديمولدير صورتها التي ستصير واحدةً من الصور الفارقة في المهنة، والتي جعلت منها أول مصورة (امرأة) تفوز بجائزة "وورد برس" أفضل صورة صحافية لعام 1977.
تُوفيت ديمولدير في عام 2008، وحينها نشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية مقالاً بعنوان "فرنسواز ديمولدير، مصوّرة". تناول المقال في جزئه الأكبر قصة هذه الصورة من أيام الحرب الأهلية اللبنانية. على الرغم من الإشارة في أعلى النصّ إلى أنه "من المُجحف اختصار تاريخها بصورة"، ولكن قوة وقدرة هذه اللقطة وما حققته من نجاح على صعيد العالم جعلت من المسألة أمراً صعباً. حضور ديمولدير في تلك اللحظة الفاصلة في تاريخ لبنان، وعلى الرغم من ثني المليشيات لها عن استكمال التصوير، مكّنتها من حبس التاريخ في لقطة بالأبيض والأسود. وجه السيدة الفلسطينية ويداها ممدودتان بعجز أمام مسلّح مُلثّم يشدّ على الزناد. في الجزء الثاني من الصورة كومة أطفال هاربين. اثنان منهم أمسكا بيدي رجل فلسطيني، وآخر يشقّ طريقه بدهشة خلف سيدة تحمل طفلاً رضيعاً. أمّا في الجزء الثالث فتنبعث النيران. النظر إلى الصورة اليوم يوحي بأنّ النار ما زالت مشتعلة، وأنّ الأطفال ما زالوا يركضون إلى ما لا نهاية. في مقابلة مع المصورة في التسعينيات، تذكر أنه بحسب معلوماتها لم يبقَ على قيد الحياة إلّا السيدة وطفلها الظاهران في القسم الثاني من الصورة. المُسلّح قتل نفسه في وقت لاحق خلال لعبة "الروليت الروسية".
عندما وصلت المصورة إلى لبنان لتغطية الحرب الأهلية، كانت تعمل لصالح وكالة "غاما" الفرنسية. صورتها هذه لم تُنشر فور التقاطها، وخاصة أنها في حينها وصلت متأخرة حوالي الأسبوعين إلى الوكالة. بعد عودتها إلى باريس، نشرت الصورة إيماناً منها بأهميتها، ولكن من دون أي دراية بالنجاح الكبير الذي ستُحقّقه. في المقال نفسه لصحيفة "لوموند"، استعادوا مقابلةً مع المصوّرة تمّ نشرها ضمن مجموعة حلقات من برنامج تلفزيون لقناة arte، تمّ عرضه بين عامي 1998 و2000. تحكي ديمولدير عن هذه الصورة تحديداً، وكيفيّة مساهمتها في نسف الصورة النمطية عن "الفلسطيني السيئ والمسيحي الجيد". علاقة ديمولدير مع هذه اللحظة التاريخية لم تنته بمجرد انتهاء مهمتها أو بمجرد نشر الصورة، فالصورة التي عُلّقت على جدران بيروت حينها، أغضبت المليشيات منها. لاحقتها هذه الصورة لسنوات، اذ لازمتها تلك "الكراهية المجنونة" الموجودة في الصورة.
Photo of the Day | A Palestinian woman pleads with a Phalange gunman in Beirut, in 1977. The first World Press Photo of the Year made by a woman, Françoise Demulder: https://t.co/UYAgjVXgd1 pic.twitter.com/shUUdq69Pi
— World Press Photo (@WorldPressPhoto) December 12, 2019
تأتي استعادة هذه الصورة في سياق معرض فني لأعمال ثماني مصورات شهيرات، غطّين بعدساتهنّ 75 عاماً من الحروب والنزاعات الدولية. يسعى المعرض من خلال عرض أعمال المصورات الثماني، إلى إبراز الدور الذي لعبته المصوّرات (النساء) في تشكيل "صور الحرب"، في وقت يُهيمن فيه الذكور على المهنة.
حضور النساء كمصوّرات في الميدان، جعلهنّ يلتقطنَ بعدساتهنّ زوايا وقصص لم يستطع غيرهن من المصورين الرجال الوصول إليها. لهذا، وحسب التعريف المُرافق لفعاليّات هذا المعرض، فهو دعوة إلى قلب الصور النمطية عبر جمع هذه الأعمال في مكان واحد وبطريقة مُكثّفة. معرض يهدف إلى فتح الباب على سؤال النوع في مجال "الصورة الصحافية خلال الحروب"، تماماً كما هو لمساءلة تلك الخصوصية النسائية في رؤية الحرب، بما يجعلهنّ ناقلات للصورة وشاهدات على الفظاعة في وقت واحد. لكن المعرض يفتح الباب لنقاش كيفيّة تعامل الصحافة مع صور الحروب. إذ غالباً ما تُواجه الصور من ساحات المعارك تعديلات تسمح لها بالتكيّف مع ضرورات النشر. لهذا فسؤال "كيف نشهد على وحشيّة الحروب؟" هو أيضاً من الأسئلة التي يُحاول المعرض الإجابة عنها.
أغلب المصورات المعروضة أعمالهنّ حصلنَ على جوائز عالمية. كما غطّت العديد منهنّ الحروب في منطقة الشرق الأوسط، سواء في لبنان أو العراق وليبيا... من هؤلاء المصورات الفرنسية كاترين ليروي (1944-2006)، وكريستين سبينغلر (1945)، الأميركية كارولين كول (1961)، وغيرهنّ. يستمر المعرض حتى يوم السبت 31 ديسمبر/ كانون الأول في مدينة باريس الفرنسية.