بعد دورة افتراضية، أُلغيت فيها العروض السينمائية في الصالات كلّياً، بسبب التفشّي الكبير لكورونا، في شتاء العام الفائت، ستُقام الدورة الـ45 لـ"مهرجان غوتنبرغ السينمائي الدولي (السويد)" بين 28 يناير/ كانون الثاني و6 فبراير/ شباط 2022، بجمع العرضين معاً: الرقمي (أونلاين) وحضور الجمهور، مع مراعاة الضوابط الصحية الخاصة.
بالمزاوجة المُقتَرحة، يُراد الإبقاء على الحضور السينمائي التقليدي، توافقاً مع قناعة بأنّ مُشاهَدة فيلم في صالةٍ لا تشبه مُشاهَدَته في منزل. والأخيرة لا تبلغ الدرجة نفسها من الانغماس الحاصل مع ما يُعرَض على الشاشة الكبيرة. بحسب وصف يوناس هولمبيري، المدير الفني للمهرجان، تجعلُ مُشاهدةُ فيلمٍ في الصالة الإنسانَ "مُنوَّماً"، وغارقاً كلّياً في المعروض أمامه. هذا لا يحدث مع المُشاهدة المنزلية. الانغماس الكلّي لا يتحقّق أمام شاشات الحواسيب.
مفردة "التنويم" أحالت إلى فكرة ظريفة، تقرّر تنفيذها عملياً، واستحدثت بدورها عبارة "سينما التنويم"، التي سيجرى تطبيقها في 3 عروض خاصة، يحضر إليها مُنوّم، وعلى حاضريها الشجعان تجرى مباشرةً عملية تنويم مغناطيسي، تسبق العرض، وتُمهِّد لدخولهم إلى عوالم الفيلم، وهم في شبه غيبوبة. الفانتازيا الاسكندنافية الخلّاقة تجد، دائماً، تطبيقاتها العملية في المهرجان. ولفرادتها، قرّرت بلدية غوتنبرغ منح جائزتها السنوية إلى ميريا ويستر، نائبة مدير المهرجان، وهولمبيري، مديره الفني.
برّرت البلدية منحهما الجائزة بالقول إنّ أفكارهما مُتجدّدة، وابتكارهما الأساليب غير مُتوقّع في عرض الأفلام، وآخرها عروض "العزلة" في جزيرة نائية قبالة البحر، التي وُصفت بأنّها العروض السينمائية الأكثر عزلة في العالم. مع ذلك، حقّقت دورة 2021 رقماً قياسياً في عدد التذاكر المُباعة رقمياً، بتجاوزه الـ400 ألف تذكرة، ما جعلها الدورة الأكثر شعبية في العالم، في العام المنصرم. مثلها مثل قيمة جائزة المهرجان لأفضل فيلم متنافس في مسابقة أفلام الشمال (نورديك)، الكبرى، هي أيضاً، في العالم (مليون كرونة سويدية، أي نحو 120 ألف دولار أميركي)، تُمنح مناصفة إلى المخرج والمنتج.
هاجس الحفاظ على مستواه، كأهمّ مهرجان لدول الشمال، دونه تحدّيات جدّية، يفرضها وباء كورونا. رغم تعبير منظّميه عن رغبتهم في تحقيق ما يصبو إليه صنّاع السينما في العالم، للمشاركة في مهرجانات فعلية، يعرضون أفلامهم أمام جمهورها، ويحضرون بأنفسهم لتقديمها. تُشير المعطيات إلى تأثّر واضح بوضع سائد عالمياً، يحول دون تطبيقها بالكامل، كما من قبل. عدد الأفلام المعروضة في الدورة الـ45 يشي بانخفاض: 200 فيلم تُعرض في 18 صالة، 50 منها فقط مُخصّصة للتذاكر الرقمية. سعة استيعاب الصالات تقلّصت (40 ألف تذكرة فقط، في مقابل نحو 130 ألف تذكرة دخول كانت تُباع في الأعوام السابقة على الجائحة). كذلك تفرض شروط التباعد فتوراً، وتُقلّل بهجةً ظلّت عنواناً بارزاً للمهرجان في دوراته السابقة.
في محاولة من منظّميه لتقليل الإحساس بالفتور والتباعد، تقرّر نقل حفلة الافتتاح مباشرةً من القاعة الرئيسية للمهرجان، "دراكن" (التنين)، إلى 70 صالة موزّعة على المدن السويدية، مع توقيت عرض فيلم الافتتاح، "اللعنة كم هو سهل" (2022) لكريستوفر ساندلر في الوقت نفسه لعرضه في غوتنبرغ، ليتمكّن الحضور من مشاهدته مع زوّار غوتنبرغ، وليتشاركوا معاً الإحساس بأنّ مهرجانهم الأهمّ، رغم الجائحة، يسير في الطريق نفسها التي سار عليها سابقاً.
تداعيات الجائحة لا تزال تفرض أفكاراً وثيمات على المهرجانات العالمية. من وحي الفوضى الناتجة عنها، تسمّي الدورة الـ45 ثميتها الرئيسية بـ"الفوضى واللانظام". في متنها، إقرارٌ بالتأثّر القوي للسينما بحالة الفوضى التي أحدثها الوباء في العالم، ومحاولة السينمائيين في كل مكان طرح هواجسهم ومخاوفهم وأسئلتهم الوجودية عن الوضع البشري الناشئ بسببها، الذي ينسحب على مجمل العلاقات الإنسانية والأُسرية، وعلى السينما وظروف إنتاجها. الاضطراب البشري ملحوظٌ في متون الأفلام المبرمجة في إطار الثيمة السنوية، والمختارة بعناية، كالفيلم التايواني "الانهيارات" (2021)، لتشونغ مونغ ـ هونغ، الذي يروي قصّة أمّ وابنتها، تجدان نفسيهما أسيرتي جدران منزلٍ، يشهد توتّرات وحالات تمزّق، بسبب الحصار الذي تعيشانه، والذي له امتداداته العميقة في المجتمع، وشروط العيش فيه، خوفاً من اقتراب الموت.
رغم مُلابسات انعقادها في زمن كورونا، تحافظ الدورة الجديدة على أقسامها: إنغمار برغمان ومسابقتا "نوردك" للروائي والوثائقي الطويل. وأيضاً على تقاليد تكريمها متميّزين في السينما، إذْ تُمنح "جائزة الشرف" هذا العام للمخرج الإيطالي لوكا جوادانيينو (1971) والممثلة السويدية ريبيكا فيرغسن (1983): المخرج الإيطالي لمُنجزه المتميّز، وانشغاله في 20 عاماً على تجسيد الحالات العاطفية المتشظّية، والشغف بالآخر حدّ الجنون. اختار المهرجان عدداً من أفلامه لعرضها على جمهوره، منها آخر نتاجاته: "اتصل بي باسمك" (2021). الممثلة السويدية لتجاوزها الجغرافية الأوروبية بأدوارٍ عالمية، أشهرها في سلسلة أفلام "مهمة: مستحيلة". الجمهور سيتعرّف عليها بشكل مختلف، بفضل جديدها "كثيب" (2021).
لـ"مسابقة دول الشمال"، اختيرت 8 أفلامٍ روائية، منها "الحمل" (2021)، للمخرج الآيسلندي فلاديمار يوهانسون: فيلمٌ مكتوب بأسلوب غرائبي، يجعل منه صانعه مثالاً على الرغبة الدائمة للسينما في الجنوح إلى أقصى مديات التجريب، وخلط الواقع بالخيال. هناك أيضاً الفيلم النرويجي، المبهر في جماله، "الأبرياء" (2021) لإيسكل فوغت، ومقاربة روحه لنصّ سينمائي واقعي آسر، عنوانه "مقصورة رقم 6" (2021)، كتبه الفنلندي يوهو كوسْمانِن بأسلوب شاعري عميق المعنى في انحيازه إلى الإنساني في حياة الأفراد، على اختلاف انتماءاتهم الطبقية والقومية. في المسابقة الوثائقية، هناك 8 أفلامٍ أيضاً، منها "أرض ذهبية" (2022) للفنلندية إنكا أشته، التي تُوثّق فيه رحلة عائلة صومالية من فنلندا إلى موطنها الأصلي، بحثاً عن الثروة، لكنها تنتهي بمواجهة مع شركات عملاقة، لا تمنح لأمثالها فرصاً للنجاح.
السينما العربية، التي لها مساحة كافية دائماً في دورات سابقة لـ"مهرجان غوتنبرغ"، تجد مكاناً مختلفاً في الدورة الحالية، يتجاوز حضورها التقليدي في أقسام ومسابقات تعتني بسينمات العالم من كلّ القارات، تُقدّم فيها جديدها المُتميّز، كقسمي "رؤى" و"رحلة"، الذي يعرض "سعاد" (2021) للمصرية آيتن أمين، والعراقي الكردي الرائع "الامتحان" (2021) لشوكت أمين كوركي. فيلمان عربيان آخران يُشاركان في "المسابقة العالمية" (برنامج جديد): "مجنون فرح" (2021) للتونسية ليلى بوزيد، و"فرحة" (2021) للأردنية دارين ج. سلّام، المتمّيز في اشتغاله السينمائي، واعتناء مخرجته بقراءتها التاريخية لنكبة فلسطين (1948). اختيار يؤشّر على جودة، تبرّر منافسته لأفلامٍ مهمّة، حصل كثيرٌ منها على جوائز عالمية، وبعضها مُرشّح للـ"أوسكار".