في بلدة صغيرة في بنسلفانيا بالقرب من فيلادلفيا، وحيث يفترض أن يكون الاستقرار والسكون هو الشكل الحاكم للعلاقات، يأتي مسلسل "مير من إيست تاون" (Mare of Easttown) ليثبت العكس. المسلسل هو دراما بوليسية من موسم واحد، من إنتاج "إتش بي أو" HBO.
في العمل، تقدم كيت وينسليت، وهي الشخصية الرئيسية، دور محققة تسعى إلى حل لغز في جريمة قتل تقع في بلدتها. يشمل طاقم الممثلين جان سمارت، وجاي بيرس، وجوليان نيكلسون، وأنجوري رايس، وديفيد دينمان، وإيفان بيترز، وسوزي بيكون، وجون دوغلاس طومسون. ويقع المسلسل في حلقات سبع، من إخراج كريغ زوبيل.
ضمن واقع بلدة صغيرة محكومة بقانون العائلة والدين، يصبح من الصعب على الفرد تحدي المنظومة والتملص من العرف السائد لصالح رغباته الخاصة. ومن خلال هذه الجدلية التي تحكم العلاقات الاجتماعية، تقع جريمة قتل تكشف ملابساتها سطوة المنظومة وأثرها على الأفراد. لذا، تمثل "مير"، المحققة المسؤولة عن حل القضية بسعيها لمعرفة الحقيقة، كقيمة تتحدى تشابكات المجتمع التي تنتصر للعائلة على حساب التضحية بالفرد، رمزاً للعدالة بقسوتها وبنقاوتها في الوقت نفسه.
هذه المعادلة تجعل من دراما "مير من إيست تاون" وصفة ناجحة دفعت المشاهدين للانتظار بصبر حتى معرفة نتيجة سعي مير لكشف الحقيقة. ويرى فريق العمل أن هذه الدراما ليست ضمن إطار الدراما البوليسية، بقدر ما هي عن سكان هذه البلدة بطبيعتها الخاصة ولهجتها المميزة. ويبدو أن الفريق محق في تصوره، فهذا العمل يطرح أسئلة متشعبة عن الذات الإنسانية تتجاوز إطار التشويق، لتسلط الضوء على الرغبة في صراعها مع الواجب. كما يفاجئنا العرض بتقديم وجه مختلف للمجتمع الأميركي؛ فالعمل يعكس الفقر ومعاناة الأفراد منه، ويبين تحديات نظام الرعاية والصحة، حيث نشهد الصراع للنجاة من منظومة رأسمالية طاحنة.
وقد أجادت كيت وينسليت في أدائها الإنساني المحمل بطاقة استثنائية، وأثنى عليها النقاد والمتابعون. ومما يزيد من إعجابهم هو قدرتها على تقديم لهجة بنسلفانيا ومزاج قاطنيها بطريقة ناجحة. عكس أداء وينسليت العبء المضني الذي تعيشه "مير" كأمّ خسرت ولدها الذي انتحر بسبب حالته النفسية المعقدة وإدمانه للمخدرات، إضافة للتحديات التي واجهتها ضمن عملها مع خسارتها لشريكها في العمل الذي قتل أثناء محاولتهما إنقاذ الشابتين المختطفتين.
لكن السؤال الملحّ: كيف قدم العمل شخصية المحققة في إطار الدراما البوليسية؟ المهنة التي تعمل فيها "مير" لا زالت تصنف كمهنة ذكورية، فتشير الدراسات إلى أنه "لا زال الموظفون الذكور يهيمنون على العديد من إدارات الشرطة في جميع أنحاء البلاد، حيث تمثل الإناث فقط 12-15 في المائة في المتوسط". ودرامياً، تعزز هذه الرؤية، حيث يتم غالباً تمثيل المحققين كشخصيات حادة الذكاء وذوي شخصيات قوية عالية التركيز. في المقابل، تبين الباحثة في ثقافة البوب، تيسليا روم، أن شخصية المحققة قد باتت حاضرة في السبعينيات ويتم تقديمها كسيدة قوية وجميلة. وعلى غير التنميط المعتاد لشخصية المحققة في فترة الستينيات، لا تقع هذه الشخصية في صراع بين الشخصي والمهني، بل تنجح في مهنتها مع احتفاظها بقدر كبير من أنوثة جذابة تنحصر في إطار التنميط الجنسي. فترى روم أنه "كان يتم تصوير النساء على شاشات التلفزيون في السبعينيات، وفقًا للعديد من الباحثين، بطريقة تنطوي على تنميط جنسي إلى حد كبير. وقد أظهر تحليل للأدوار المهنية للمرأة على شاشات التلفزيون في الولايات المتحدة أنها تشكل نسبة أقل من القوة العاملة (21٪) منها في الحياة الواقعية (37.8٪)، ويعود ذلك في المقام الأول إلى أن مكان المرأة المتزوجة بحسب تمثيلها في التلفاز كان في منزلها. وكما تم تصوير النساء على أنهن أقل ذكاءً ولديهن معرفة أقل من الرجال. وقد بدت المحققات درامياً على أنهن غير حازمات وسلبيات واعتماديات".
وبهذا، فقد غلب على الدراما عرض الأدوار النسوية في سلك الشرطة كشخصيات تقع كضحايا للعنف، وعلى عدم كفاءتهن المهنية مقارنة بنظرائهن من الذكور. في ما بعد، برزت المحققات في فترة الثمانينيات كنساء منصبات على تحقيق أهدافهن في العمل، مع تجنب تنميطهن جنسياً، ولا يعني هذا عدم الحفاظ على إثارتهن. وقد سمح للمحققات بامتلاك عائلة وعدم وقوعهن في صراع بين الشخصي والعملي. ومن خلال الاحتفاظ بهذه الصورة كأساس للبحث، تأتي شخصية المحققة "مير" لتتحدى التنميط وتبرز إمكانية المرأة للمنافسة وإثبات الذات في وسط متطلب.
لكن من الملفت كيف أن الجانب العاطفي قد غلب على أداء كيت وينسليت، وقد يعود ذلك لطبيعة الجريمة التي وجدت ذاتها تبحث عن حل لها، ألا وهي جريمة قتل الشابة أيرين مكمينامين التي يظهر أنها صديقة فعلية لابنتها ولهما ذات العمر. إضافة إلى ذلك، فإن خصوصية المدينة التي تعمل فيها تجعل من الصعب فصل الذاتي عن المهني، فالعلاقات الاجتماعية هناك متشابكة، ما يؤدي إلى تعقيد مهمة مير التي يصل بها الأمر إلى اتهام زوجها بقتل تلك الشابة.
كذلك، فإن وينسليت سعت إلى تقديم "مير" بتناقضاتها وضعفها وبإنسانيتها التي انعكست في بساطة أزيائها وابتعادها عن المبالغة في إبراز جمالها ومفاتنها. ويعطي رأي صحيفة "نيويورك تايمز" فكرة عن جمال أداء كيت وينسليت، فالنقاد "معجبون بكيفية وقوع الجماهير في حب هذه المرأة ذات الفوضوية، المكسورة، المشتتة، الصعبة. لقد أحب الجمهور ندباتها وعيوبها وحقيقة أنها لا تعرف أن تتوقف، بل تمضي قدماً".
ومن الأعمال المهمة على شاشة "نتفليكس" التي يمكن متابعتها لمحبي هذا الصنف من الدراما البوليسية ببطولة نسائية، يأتي العمل المميز "أمر لا يصدق"، وهو عمل استطاع الدمج بين الإثارة والتشويق وبين الانتصار لقضية دعم النساء اللواتي يقعن كضحايا للاغتصاب والعنف ضدهن. وجاء ذلك، بفضل أداء كل من ميريت ويفر وتوني كوليت، اللتين أسهمتا في تعزيز هذا النوع من الأعمال التي تكرس الأدوار النسائية القوية والملتزمة في حبكة درامية بوليسية. وبالطبع، فإن الواقع يحفل بنماذج نسائية قوية وناجحة، لكن من المهم العمل دائماً لتعزيز تمثيلهن إعلامياً وتسليط الضوء على قضاياهن.