طرحت منصة نتفليكس الأميركية، في الآونة الأخيرة، مجموعة من الأعمال السينمائية والتلفزيونية، التي تهتم بشكل خاص بالقضايا الإنسانية. تتفرع عن تلك القضايا مسائل اجتماعية وأخلاقية متعددة، كالجندرية واللجوء والعنصرية، وغيرها من مواضيع تمس الرأي العام العالمي. الاختلاف والتنوع في طرح هذه المواضيع لم يعودا مقتصرين على طريقة أداء المنصة ونسق انتشارها في بلدان العالم. مجمل هذه المواضيع تصب في مصلحة الترفيه والربح التجاري من جهة، واستهداف أذواق الجمهور المتنوع من جهة أخرى. لكن، يبقى تطويع الفكرة والخطاب لصالح الرؤية الإعلامية الخاصة بالمنصة هي أكثر الملاحظات خصوصية لتشريح عملها وآلية تسويقها.
ولعلنا لن ننكر بعض الأعمال المهمة القليلة التي تقدمها "نتفليكس" ضمن عشرات الأعمال التي تطرحها على مدار السنة. إلا أننا لن نعنى بشكل هذه الأعمال ونوعيتها أو جودتها، بقدر ما تعنينا تلك الآثار الفكرية والثقافية التي تمررها المنصة، وفق منظور أيديولوجي صرف، مرهون بوتيرة انتقائية في اختيار أسواق العرض وشروطها وديموغرافيتها.
سنتتبع تلك الآثار، بداية، مع الكوميديان الفلسطيني محمد عامر، الذي يلعب دور البطولة في المسلسل القصير "مو". صدر العمل حديثاً، ويضم مجموعة من الممثلين الفلسطينيين، على رأسهم فرح بسيسو، إضافة إلى الممثل المصري رامي يوسف الذي شارك عامر في تأليف حلقات العمل.
يسجل العمل لحظات مقتبسة من تجارب "مو" الشخصية. نتعرف إلى صراعاته القانونية والمهنية المرتبطة بطلب اللجوء المؤجل منذ أكثر من عشرين عاماً، بعد نزوحه وعائلته من الكويت بسبب الحرب الخليجية عام 1991، وتبعات ذلك على حياته المهنية غير المستقرة. يصوّر العمل صراع الهوية والمعتقد بسبب ثقافة العائلة الإسلامية، وتأثير ذلك على علاقاته مع المحيط ومع الأديان الأخرى، ومن ثم الصراع النفسي والفكري بسبب ذكرياته مع والده المتوفي.
رأينا جميع أشكال الصراع التي يكابدها مو عامر، خلال صراع أساسي بدا أن "نتفليكس" كانت راضية عن غيابه، وتجنبت طرحه في النص الدرامي، المتمثل بالقضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي. ولعل توليفة العمل ستسوغ للمشاهد الأميركي المعتدل تقبل شكل السيناريو المطروح، طالما أنه لا يمس هذه القضية بالذات، بحجة تفترض من خلالها أن ثقافة فلسطينية تمر عبر الإعلام الأميركي بشكل مستساغ، لأنها تناسب عقليته وذوقه بالاستفادة من مكانة محمد عامر المهنية داخل المجتمع الأميركي ومؤسساته العسكرية التي يحظى بشعبية واسعة بين أوساطها.
ومن هنا ستتوالى أشكال التسطيح في طرح الرؤية الخاصة للمنصة الأميركية، لتتبعها جلسات تسلية وترفيه تجمع بين عم البطل المسلم وصديقه اليهودي على طاولة واحدة، في إشارة إلى الصلح وبناء السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كنوع من تطبيع خجولٍ خارج حدود النص.
نشاهد هذا النوع من الخطاب الإعلامي في فيلم "قلوب أرجوانية جريحة" الذي يجمع قصة حب بين جندي مشاة في البحرية الأميركية وفتاة لاتينية مهاجرة. وفي سياق القصة، سنتعلم من جنود المشاة دروساً في الأخلاق والمحبة، وهم يقاتلون في العراق، ويلاعبون أطفاله في نسج ساذجٍ وتسطيحٍ مبالغٍ فيه لتضليل الرأي العام حول سياسات أميركا خارج حدودها، ونشر أفكار الشرف والحرية والتحرير أمام شعبها.
ومن هنا ستتحول بطلة الفيلم صاحبة الرأي المستقل والمدافعة عن قضايا وحقوق الإنسان إلى عبدة لنظام اجتماعي وأخلاقي فرض هيمنته على فتاة تحتاج إلى تأمين صحي وجرعات أنسولين لن يؤمنها لها سوى قصة حب وزواج من ابن القطاع العسكري، الذي يمنح ميزات وخدمات مالية وصحية لأسر الجنود.
الأمر لا يتوقف عند حصر الدعاية الأميركية في نشر مفاهيمها الأخلاقية، بل يتعداها لتفرض مسألة الهيمنة والسطوة على العالم، خاصةً الأعداء التاريخيين لأميركا، وخير مثال على ذلك مسلسل "مناورة الملكة" الذي يتناول قصة فتاة أميركية انتصرت على أفضل لاعب شطرنج روسي في عقر داره.
في الفيلم البريطاني "مررت من هنا" الذي صدر قبل أيام، سنشاهد نموذجاً آخر لا يختلف عن إصدارات "نتفليكس" السابقة التي تتناول مسألة المهاجرين الأفارقة والأفروأميركيين. شابان أميركيان، أحدهما يدعى توبي (جورج مكاي) والآخر يدعى جاي (بيرسل أسكوت)، وهما رسامان جداريان يتحديان النظام عبر دخول منازل شخصيات اعتبارية وثرية فاسدة في المجتمع الأميركي، بهدف تمرير رسالة جدارية تكشف عن سخط الناس تجاه سلوكياتهم.
سيتحول الأمر، لاحقاً، إلى سلسلة جرائم قتل على يد قاضٍ أميركي متعصب ضد اللاجئين والمثليين. سيُقتل توبي على يد القاضي، ثم تلحق به والدته التي حاولت كشف حقيقة ما جرى لولدها، لينتهي مسار القصة عند جاي الأفروأميركي الذي سيعود لكشف ملابسات اختفاء صديقه ووالدته، بعد أن كان تعهد بالابتعاد عن أي مشاكل ستهدد حياة زوجته وطفلته.
ما يعنينا من هذا السيناريو الفرضية الكلاسيكية لوجه الحضارة الحديث الذي تتبناه منصات البث التدفقي، مثل "نتفليكس" و"ديزني +"، عبر اللعب على وتر الحقوق والمساواة. لدينا هنا بطلان، أحدهما من العرق الأبيض، والآخر من ذوي البشرة السوداء. هذه صيغة قد تبدو مناسبة أمام المجتمعات المدنية والمنظمات الحقوقية والرأي العام العالمي. لكن تذييلها بمبادئ حقوقية وإنسانية وأخلاقية لا يعني أن طريقة طرحها تخلو من مراوغة ثقافية ستكشفها سذاجة الفكرة وشكل تقديمها. إذ إن محاربة النظام أو السلطة، لهي من الأهداف السامية التي لن تقبل تسليماً وضعفاً في متابعة مثل هذه المهمة لسبب عرضي سيجعل من شريك توبي، الأفروأميركي، ينسحب منها لأن زوجته ستلد، ولأن اكتشاف الشرطة لأفعاله سيودي به حتماً خلف القضبان. فمبدأ السببية هنا مشوه أمام نظرية أخلاقية معقدة، لا تحتمل انتفاءها في مثل طرح كهذا. إلا أن "نتفليكس" تعرف مسبقاً أن المشاهد سيجزع في حال كانت العقدة سخيفة وغير متينة في كل الأحوال.
ازدواجية المعايير التي تبني "نتفليكس" رؤيتها على أساسها تنسحب فرضياً إلى نوع النصوص وشكلها، ولكنها في صميمها تقترب إلى المراوغة على شؤون العالم المعاصرة، وتحاول رغم تناولها لمختلف القضايا الإنسانية إخراج نفسها من أحكام النقد، بتوسيع دائرة الإنتاج.